للدكتورة رمزية الغريب
أستاذة علم النفس المساعدة بكلية البنات بجامعة عين شمس
في هذا المكان تلتقي بك، أيتها الأم، مرة كل شهر اختصاصية نفسية جمعت إلى العلم الغزير، الخبرة العملية الطويلة لتحدثك عن الخدمات التي يسديها لك علم النفس في سبيل إسعاد حياتك وحياة أبنائك…
من أهم بواعث قلق الأم وخوفها أن تجد طفلها الهادئ الوديع قد انقلب في السنة الثانية أو الثالثة من عمره إلى طفل غضوب سريع الانفعال، كثير الاعتداء على أخواته، وتحول من حمل وديع مطيع إلى (شيطان) عنيد يخرب كل ما تصل إليه يده، ولو كانت لعبته المفضلة!.
ومما يزيد في قلق الأم وخوفها، أنها بحكم علاقتها بالطفل ونظافته، وبحكم أنها المصدر الأول لإشباع حاجاته تصبح هدفًا يوجه إليه الطفل اعتداءاته الأولى، وانفجاراته الانفعالية المبكرة… فيقاومها إذا حاولت حمله على البقاء في وضع لا يريده، ويكسر كوب اللبن التي أعطتها له لأنه لا يرغب في شربه مثلا…
وتسعى الأم غالبًا إلى محاولة القضاء على ما يبدر منه من مقاومة والاعتراض على طريقته في إظهار إرادته وإثبات وجوده… وهي معذورة في ذلك؛ فهذا النوع من السلوك لا يتفق ومعايير مجتمع البالغين المحيطين به!.
وقد يصل قلق الأم من تكرار نوبات الغضب والاعتداء لدرجة تضطرها إلى التماس نصح الاختصاصي النفسي.
وهنا نتساءل: هل الأم محقة في قلقها وخوفها؟ هل اتجاه الطفل إلى العدوان سلوك سلبي يحسن أن يتخلص منه الطفل؟!
لا داعي للقلق
الواقع أن علم النفس الحديث لا يقر الأم على شعورها بالخوف والقلق، بل لا يقرها على محاولتها القضاء على ما يبدو في سلوك طفلها من مقاومة وعدوان؛ ويطمئنها إلى أن هذا التطور الذي لاحظته في سلوك صغيرها في سنته الثانية أو الثالثة تطور صحي سليم، بل ضروري لسلامة صحته النفسية، ومن الخطأ كبته أو القضاء عليه.
ذلك أن كلمة عدوان (Aggrression) أصبحت في علم النفس الحديث كلمة مصاحبة للحياة، بعد أن كانت مصحابة للعداء، والفساد، والمشاغبة. والعدوان نمط من أنماط السلوك الضروري لتكيف شخصية الفرد للمجتمع الذي يعيش فيه وهو تعبير عن حيويته يتجلى في صورة عمل أو شعور، أو انفعال إيجابي يوجهه الطفل ضد ضغط المجتمع، ممثل في سلطة الآباء والمدرسين التي تفرض القيود على رغباته وتحد من استخدام إرادته.
ويبدأ السلوك العدواني في أبسط صوره حين يحاول الرضيع، رغم قلة حيلته واعتماده اعتمادًا تامًا على أمه، أن يشبع حاجاته الأولية التي لا تعدو أن تكون حاجات فسيولوجية بسيطة، بطريقة لا تخلو من الفرض والإلزام. فهو يتطلب منها أن تكون مسخرة في خدمته؛ إذا جاع فلا بد من أن تشبع حاجته إلى الطعام، وإذا بل نفسه بكى ليلفت نظرها لما يضايقه؛ وإذا تألم تطلب منها مواساته؛ وإذا احتاج إلى الصحبة أراد منها أن تبقى بجانبه… وهو في كل هذا التصرف يدمج ذاته في ذاتها ويسخرها كما يريد هو لا كما تريد هي، يساعده في ذلك الاستعداد العدواني العام الذي يملكه.
العدوان وإثبات الذات
وكلما تقدمت به السن شعر بذاته ككائن منفصل عن أمه، له رغباته الخاصة وله إرادته، وبدأ يتبين أن إشباع رغباته يتوقف على مدى استعداد البيئة المحيطة به لتحقق هذه الرغبات؛ كما يتبين أنه لا سبيل إلى تحقيق كل ما يريد، ولذلك يلجأ إلى العدوان كلما اصطدمت رغباته مع حقائق الواقع المحيط به والذي لا يعرف عنه إلا القليل!.
والعدوان وسيلة مهمة يستخدمها الطفل لإثبات ذاته، وهي الخطوة الأولى، أو الأساس النفسي للتربية الاستقلالية، ولذلك وجب الانفصال عن أمه في مراحل حياته الأولى.
ويرى علم النفس أن اصطدام إرادة الطفل ورغباته بحقائق عالم الواقع خطوة ضرورية، لا لنموه الانفعالي وتكامل شخصيته وحسب، بل في إعداده لحياة الجماعة حيث تتباين إرادات الأفراد، وتختلف رغباتهم وتتلاقى بطريقة تجعل الشعور بخيبة الأمل والإحباط في بعض المواقف أمرًا لا بد منه ولا مفر.
ولا يضير الطفل شعوره من آن لآخر بنوع من الفشل في تحقيق بعض رغباته، بل على العكس، إن هذا الشعور على مرارته عامل من عوامل تكيفه للمجتمع بشرط ألا تكون حياته كلها سلسلة من الإحباط والفشل بسبب كثرة ما يقع عليه من قيود وضغوط اجتماعية تحول بينه وبين تحقيق حاجاته الضرورية. ففي هذه الحالة يلجأ الطفل إلى وسائل العدوان السلبي الذي سنتكلم عنه فيما بعد.
وأخيرًا قد تكون لمقاومة الطفل لقيود البالغين المحيطين به فائدة تعليمية، إذ أن تفاعل رغبات الطفل وتصادمها مع حقائق عالم الواقع المحيط به، ومحاولته اكتساب الوسائل التي تمكنه من تحقيق هدفه، كثيرًا ما تكسبه خبرة بحضارة هذا المجتمع وتراثه.
من ذلك نرى أن التجاء الطفل إلى المشاغبة والعدوان ومقاومة إرادة البالغين في بعض مواقف حياته، أمر طبيعي، بل مفيد ولا يستدعي من الأمهات خوفًا ولا قلقًا.
متى يبعث العدوان على القلق؟
في بعض الأحيان يلجأ الطفل إلى أنماط من السلوك العدواني تخرجه عن دائرة الاتجاه الإيجابي الذي أسلفنا أنه ضروري لنمو شخصية الفرد وحسن تكيفه للمجتمع… وفي هذه الحالة تنقلب الآية، ويصبح هذا النوع من العدوان السلبي خطرًا يهدد شخصية الفرد بالانحلال والانهيار، وهنا يحق للأم أن تقلق، وأن تطلب، إن استدعى الأمر، مساعدة العيادة النفسية… ويحدث ذلك في المواقف الآتية:
• إذا زاد السلوك العدواني عما يتطلبه الموقف… كأن يثور الطفل، وينفجر باكيًا، ويقذف بأطباق الطعام على الأرض لأنه أراد أن يبدأ بالحلوى قبل باقي الأكل، ومنع من ذلك…
• إذا بلغ الشعور بالفشل درجة من العمق والقوة بحيث يدفع الطفل إلى الهدم والتخريب.
فبعض الأطفال يخربون كل ما تصل إليه أيديهم؛ وليس لهم من هدف واضح لهذا النوع من السلوك إلا الارتياح لرؤية الأشياء المخربة.
• إذا كان الاعتداء موجهًا نحو الأشخاص بقصد إيذائهم، وليس ضد الأشياء والظروف الواجب تغيرها.
• إذا أدى الاعتداء إلى شعور الطفل بالخطيئة والذنب لدرجة تهدد سعادته.
فبعض الصغار تعترضهم نوبة من الاكتئاب والقلق والخوف بعد الإتيان بالسلوك العدواني قد تطول أو تقصر حسب حالة الطفل. ويقسو الطفل أثناءها على نفسه معترفًا بذنبه، معظمًا له. وفي هذه الحالة يكون للسلوك العدواني أثر سلبي في تكيف الطفل للوسط الذي يعيش فيه بدلًا من أن يكون عاملًا على نموه وتكامل شخصيته.
ظروف العدوان السلبي
أما الظروف التي قد تؤدي إلى ظهور أنواع السلوك العدواني فتتلخص فيما يلي:
• التشدد في وضع القيود التي تحد من حرية الطفل الذي يميل بطبعه إلى التحرر من القيود؛ كأن تلجأ الأم إلى تقييد حركاته، وتحديد إقامته في مكان ضيق غير مناسب، ومنعه من مخالطة الأطفال في مثل سنه.
• الإسراف في إرغام الصغار على اتباع نظام معين والقسوة في وضع القيود التي تحول بين الصغار وبين تحقيق رغباتهم الضرورية، مثل إكثار الآباء والمعلمين وغيرهم من البالغين، من الأوامر والنواهي؛ والمبالغة في إرغام الأبناء على السير بدقة على ما تقضى به التقاليد والعادات، واتباع مُثُل الجماعة في وقت لم يصل فيه هؤلاء إلى درجة من النمو العقلي والاجتماعي تمكنهم من فهم مبادئ البالغين ومثلهم.
• الإسراف في حماية الأبناء وإجابة كل طلباتهم… الأمر الذي يؤدي إلى حرمانهم من الشعور ببعض الفشل، وهو الشعور الضروري لإيقاظ إرادة الفرد ومقاومته لما يقع عليه من ضغوط، حتى إذا خرج للحياة لم يجد في نفسه استعدادًا أو قدرة على تحمل مواقف تتعارض فيها إرادته مع إرادة الآخرين، وتكون النتيجة في كثير من الأحيان إما انسحاب الفرد من المجتمع، وإما اندفاعه في موجة العدوان السلبي كالمبالغة في القسوة وإيذاء الغير.
• ومن الظروف التي قد تؤدي إلى أنواع السلوك العدواني السلبي في محيط الأسرة، ازدحام العائلات في مساكن ضيقة حيث لا يجد الأطفال مكانًا للحركة، وحيث يسهل اصطدام إرادتهم بسبب أو بغير سبب.
• كذلك يؤدي ازدحام الأطفال في المدراس والمؤسسات إلى النتيجة نفسها. إذ دل البحث على أن نسبة ظهور السلوك العدواني السلبي أقل في المدارس والمؤسسات الأقل ازدحامًا. ويبدو العدوان السلبي أكثر ظهورًا حيث يقل الوقت المخصص (للفسح) في المدرسة أو المنزل مع الضغط على النواحي الأكاديمية.
• ولذلك كان من الخطأ حجز الأطفال في الفصول وقت (الفسحة) كما يحدث في بعض مدارسنا المصرية.
أشكال العدوان السلبي
بقي أن نشير إلى بعض صور العدوان والمشاغبة عند الأطفال قبل أن نتكلم عن وسائل تربية الطفل تربية تساعده على تكوين اتجاه إيجابي…
يختلف الأطفال فيما بينهم في الطريقة التي يعبرون بها عن مقاومتهم لسلطة البالغين أثناء محاولتهم إثبات ذاتهم. فقد يبدو السلوك العدواني في صورة الامتناع عن تناول الطعام، بمعنى أن تصبح منطقة الفم منطقة صراع تتصادم فيها إرادته مع إرادة أمه. وقد يعبر عنه طفل آخر بالامتناع عن استعمال الوعاء الذي يقضي فيه حاجته (القصرية) بعد أن كان يستعملها في السنة الأولى دون مقاومة… أو قد يلجأ إلى العناد واستخدام كلمة (لا) لكل طلب يطلب منه… وقد يلجأ آخر إلى الاعتداء على إخوته وإلى تخريب كل ما تصل إليه يده من لعب، ومفاتيح، وساعات… إلخ. كذلك قد يعند إلى الاعتداء على زملائه بالمدرسة بسرقة أدواتهم وكتبهم أو تمزيقها، أو ضربهم بقسوة.. كل هذه مظاهر مختلفة لمقاومة الأطفال لسلطة البالغين، وقد تصل عند البعض إلى درجة مقلقة تضطر الأم إلى طلب المساعدة من المختصين.
تكوين الاتجاه الإيجابي
ولكي تساعدي طفلك على تكوين الاتجاه العدواني الإيجابي أقدم لك هذه الإرشادات.
• أفسحي صدرك لطفلك
ودعيه يعبر عن ثورته على سلطة البالغين بطريقة تسمح له بإظهار غضبه، وأفهميه ألا غبار على تصرفاته إن غضب، وذلك حتى تساعديه على أن يتخلص من التوتر الذي قد يعتريه أولًا بأول بدلًا من بقائه مضغوطًا مكبوتًا.
• قللي بقدر الإمكان من القيود التي تفرضيها على ابنك، بكثرة الأوامر والنواهي التي لا يفهم لها معنى في عالمه الصغير، وليس معنى ذلك أن تتركي له الحبل على الغارب يفعل ما يريد، ويأكل ما يشتهي، وإنما عليك أن تصري على أن يطيع بعض طلباتك التي تجدينها ضرورية لتوجيه سلوكه واكتسابه عادات الجماعة ومبادئها، وبذلك تتحين له الفرصة لاكتشاف عالم الواقع المحيط به.
• لا تكوني قاسية شديدة فتثيرين فيه الرغبة في المقاومة والقتال؛ ولا تكوني لينة بحيث تجيبين كل طلباته وبذلك تقفين حائلًا بينه وبين شعور الإحباط الضروري لإثاره الرغبة في إثبات الذات، والتغلب على الصعاب.
• كرسي له وقتًا إضافيًا للعناية به وإشعاره بالمحبة والأمن، إذ أن عدم تكريس الأم لابنها وقتًا كافيًا في المجتمعات الحديثة، من بين أسباب إثارة الرغبة من المقاومة، والشعور بالإحباط لعدم تحقيق رغبته القوية في التمتع بقربها أكبر وقت ممكن.
• يجب أن تتجنب الأسرة بقدر الإمكان السكن في المساكن الضيقة إذ أن حبس الأطفال في حجرات ضيقة يقيد من حريتهم، ويجعلهم أكثر تعرضًا للانفجارات الانفعالية.
أما الدور الذي يجب أن تقوم به المدرسة في هذا السبيل فهو عظيم؛ ولكني، لضيق المقام هنا، سأكتفي بالإشارة إلى أن للجو الذي يخلقه المدرس بين تلاميذه أثرًا كبيرًا على نموهم الانفعالي، فقد يخلق نوعًا من الود والمحبة يجعل من الفصل والمدرسة أسرة واحدة متحابة؛ وقد يخلق جوا عدائيًا، وأسرة ينتهز كل فرد من أفرادها الفرصة للاعتداء على أخية بكافة الطرق!.
كما أن لأنواع النشاط التي تهتم بها المدرسة أثرًا كبيرًا على تكيف أبنائها للمجتمع وتكامل شخصياتهم. فحيث تهتم المدرسة باستخدام أوقات الفراغ في العناية بأنواع النشاط الرياضي والاجتماعي الذي يسمح للتلاميذ بالتنافس في جو سليم تسود روح الاعتداء البنائي الضروري للنمو، وحيث تقيد حريتهم، وحيث يضغط على النواحي الأكاديمية دون الترويحية، يسود روح السلوك العدواني السلبي الهدام.
-نُشر أولًا بموقع حياتك.
لا تعليق