على هامش أحد التدريبات العلاجية تبادلت أطراف الحديث مع صديقة تعمل بالعلاج النفسي في كلٍ من أميركا ولبنان، تطرّقنا لمسألة الإساءات الأسرية، وكان لها رأي كان غريبًا علي حينها، «أتعرف، هذه الإساءات لها خاصية التوارث، تنقلها الأجيال أحدها إلى الآخر، الجميع يدعون العصمة لكن ذلك خلاف الحقيقة، صدقني لقد تتبعت الأمر». جادلتها فقالت لي: إن الجرائم التي لم تغتفر تتناقلها الأجيال إلى أن تنكسر الدائرة، بأن يأتي أحدهم ليمارس طقس الغفران العظيم الذي يكسر لعنة الإساءة المتوارثة. ثم مررت لي ورقة علمية تتبعت هذه القضية في الفئران حيث قامت الفئران الوليدة بالهرب من رائحة ما كانت قد تم ربطها بالأذى لدى الجيل السابق، والذي قد تم فصله عن الجيل الحديث منذ لحظة الحمل، وكذلك لدى الكثير من العائلات الذين تعرضت أجيالهم السابقة للأذى النفسي والجسدي في محاكم التفتيش ومعسكرات الاحتجاز وغيرها، وبدت على العديد من أفرادها أعراض كرب صدمة لم يواجهوها بأنفسهم.
لم أنم هادئًا تلك الليلة وظللت أفكر في حديث الصباح الذي تبادلناه، إلى أن التقيتها في الصباح التالي، وسألتها عن الغفران كيف تؤديه مع عملائها، كانت تعني طقس الغفران بشكل مجازي، الغفران كمعنى، لكنها أيضًا اصطحبتني أثناء الحديث بعيدًا نحو الشرق، هناك على هضاب التبت حيث تمارس بعض القبائل طقسًا خاصًا بالغفران، يدخل فيه الفرد بصلاة يلتمس فيها حضور الرب ومباركته، ثم وحين يجد صفاءً روحيًّا يستحضر تجربته التي يرغب في ممارسة طقس الغفران عليها، ثم يقول: «الآن، وفي حضور إلهي أنا أرى كيف شاركت في صنع موقفي هنا والآن، أمتن لدورك الذي لعبتِه في حياتي، وأطلقك من ذكراي».
حملت هذا النقاش إلى صديقي البريطاني العجوز وقلت له: «كيف أطلب من الضحية أن تغفر للجاني»، فقال لي: «ولماذا ترى الأمر محصورًا في صورة جانٍ وضحية؟ ومن قال لك إن الضحية في قصته ليس جانيًا في قصةٍ أخرى، وأن الجاني يكرر قصة عاشها قبل ذلك مع تغيير الأدوار فقط؟» كان يشير إلى ما نعرفه بالتوحد مع المعتدي، حيث يعيد تكرار نفس نمط الإساءة على رغبة لا واعية أن يعدل الذكرى، أو أن يلعب دورًا مختلفًا في قصته
تركته وعدت إلى اليونان، قديمًا في عمق الزمن وبحثت في أصل كلمة الغفران في اليونانية، ففاجأني أنها تعني الإطلاق To set free، حيث يكون المحرَر هنا هو من قام بالغفران، بإطلاقه نفسه من الارتباط بالشخص أو الشيء أو الذكرى المسيئة، وهنا لا بد أن نؤكد أن الغفران لا يشترط إسقاط جُرْم المعتدي، وإنما التوقف عن الارتباط به ألا يظل عالقًا في زمان ومكان الإساءة.
إن الكثيرين الذين قابلتهم من الناجين من الإساءات بأنواعها كانوا يعانون من تأخر النمو النفسي، حيث يتوقف عمرهم النفسي عند عمر الإساءة، وليس ذلك فقط وإنما هم لا يزال بداخلهم فجوة زمانية تحملهم كل ليلة إلى ذكرياتهم القديمة وتحرم عليهم السكينة، فهلع الطفل ورهبة الفتاة ما زالت باقية، أو قل عالقة.
إن الذين اختبروا الإساءة يجدون أنفسهم في قلق وخوف دائم وهم تقريبًا في حالة التأهب القصوى بشكل دائم، والسر هنا أن اللوزة الدماغية Amygdala، وهي المسؤولة عن الدفاع في الخطر بعد أن فشلت في توفير الحماية لصاحبها ساعة الإساءة تظل دومًا في حالة تأهب وكأنها تريد ألا تكرر نفس الخطأ، ولمثل هؤلاء أقول دائمًا «ولنفسك فاغفر». اغفر أنك لم تستطع أن تدافع، أو عجزت عن المقاومة أو الردع، أرسل رسالة سلام إلى لوزة دماغك أن لا بأس، لا يزال بالعالم بكل ما فيه ومن فيه مكان آمن.
-نٌشر أولًا بموقع صحتك.

لا تعليق