هذه مجموعة من القواعد في الحب وما يتعلق به، أرجو أن تكون أكثر صدقًا وواقعية واتساقًا مع العقل والوحي= من كثيرٍ من الزيف الذي يتداوله الناس في هذه الأبواب يعجبهم طلاؤه، وهو قشر يزول ولا ينفع.
القاعدة الأولى: إن أقل البيوت الذي يُبنى على الحب.
روى الطبريُّ وغيره بإسناد صحيح عن ابن أبي عزرة الدؤلي، وكان في خلافة عمر يخلع النساء التي يتزوجها، فطار له في الناس من ذلك أحدوثة فكرهها.
فلما علم بذلك، قام بعبد الله بن الأرقم حتى أدخله بيته، فقال لامرأته، وابن الأرقم يسمع : أنشدك بالله، هل تبغضينني ؟
فقالت امرأته : لا تناشدني .
قال : بلى.
فقالت : اللهمَّ نعم.
فقال ابن أبي عزرة لعبد الله: أتسمع؟
ثم انطلق حتى أتى عمر، ثم قال: يا أمير المؤمنين، يحدثون أني أظلم النساء، وأخلعهن، فاسأل عبد الله بن الأرقم عما سمع من امرأتي، فسأل عمر عبدَ الله ، فأخبره ، فأرسل عمر إلى امرأته ، فجاءت .
فقال لها: «أنتِ التي تُحدِّثين زوجك أنك تبغضينه ؟ » .
قالت : يا أمير المؤمنين ، إني أول من تاب، وراجع أمر الله، إنه يا أمير المؤمنين أنشدني بالله، فتحرَّجت أن أكذب، أفأكذب يا أمير المؤمنين ؟
قال : « نعم ، فاكذبي، فإن كانت إحداكن لا تحب أحدا، فلا تحدثه بذلك، فإن أقل البيوت الذي يُبنى على الحب، ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والإحسان ».
رضي الله عنك يا أمير المؤمنين، إي والله بالإسلام والإحسان!
قلت: والحب في الناس قليل، وتكاليفه عظيمة جدًّا، وهو إذا حصل في النفوس رأيت منه ما لا يمكن أن يقع من آدمي لآدمي إلا ما يكون من خاصة الأمهات لأبنائهن، فأين ترى هذا اليوم ؟!
وأكثر ما تبنى عليه البيوت مما يسمى حبًّا= هو كذبٌ تَوهَّمه من لا يعرف معنى الحب، وإنما حبهم أكثره وأحسن ما يكون منه= تآلف خلقي وامتنان ومكافأة إحسان، وشهوة سرعان ما تهدأ نارها، والشهوة ليست هي الحب؛ لذلك يُسرع إلى تلك البيوت الهدمُ؛ إذا جعلوا قانون علاقاتهم هو هذا الحب المتوهم وحده. |
ولو طلب الناسُ إقامةَ البُيوت على العدل والفضل والمروءة والتقوى، ولا يفرك مؤمن مؤمنة، ومعاقد الحقوق وسماحة صاحب الحق وإحسانه ونزوله عنه كثيرًا لِرضا شريكه = لاستقام منها ما كان مُعوًّجًا.
وأكثر ذلك بيد الرجل.
القاعدة الثانية: الحب في الدنيا قليل.
الحب عندي شيءٌ عظيم جدًّا ونفيسٌ جدًّا ونادرٌ جدا، وابتذال الناس له هكذا بتسمية الشهوةِ حبًّا، والإعجاب حبًا والمودة حبًّا= كل ذلك عندي هواءٌ لا قيمة له.
الحب حجرٌ كريم نادر، لولا أن خواص الأمهات وسادات أصحاب الأنبياء وسادة الأولياء= يتنفسونه في الدنيا لكان من العناصر المعدومة في كوكبنا، وأقلُّ أنواعه وجودًا هو ما يكون بين رجلٍ وامرأة.
لا يغرُّك ابتذال الناس لاسم الحب، فإن الحب حقًا عزيز ليس هو هذه العاطفة الملقاة في الطرقات، المباعة على الأرصفة، تلك أخرى مزيفة، فيها بعض التِّبر وغالبها نُحاسٌ ملوَّن.
وغالب ما في الناس هو درجاتٌ من الاشتهاء أحيانًا، ومن المودة وتوافق الطبع أحيانًا، ومن المحبة نفسها أحيانًا أخرى، أما حبٌّ تام محقِّقٌ لأركانه وشروط كماله الواجبة= فهذا قليلٌ في الناس.
القاعدة الثالثة: التضحية هي معيار المحبة الحقيقية ووسيلة قياسها.
المعيار الحقيقي والأساسي للحب هو التضحية، وسيلة القياس الأساسية للمحبة هي عدد المرات التي تفعل فيها ما تكره، و تترك فيها ما تحب= رعايةً لخاطر محبوبك.
- الكلام الطيب والتعبير عن المشاعر.
- الاحتضان والاحتواء.
- طقوس الحب الشائعة في الناس (عاوزة ورد يا إبراهيم).
كلها أشياء حسنة وجميلة وتزيد من دفء العلاقات، لكنها توجد في علاقات المودة والسكن والألفة والعشرة والصداقة، وليست مقتصرة على المحبة.
الحب الحقيقي وحده هو ما تتواتر معه التضحيات، ويعتاد فيه المحب أن يخالف هواه لهوى محبوبه، ويخفُّ عليه تجاوزُ طبعه وكسر شهوة نفسه، ما دام في ذلك رضا المحبوب.
لأجل ذلك كان شرط المحبة النبوية أن يكون الرسول أحب إليك من كل شيء، وأن تكون مستعدًّا لفدائه بنفسك وأهلك ومالك.
ولأجل ذلك كانت المعصية قبيحة؛ لأنها تَخدِش المحبة، وتعني أنه قد ثَقًل عليك أن تخالف هواك تضحيةً و رعاية لحق محبوبك.
ولأجل ذلك كان أعظم تجليات المحبة لله= الشهادة، أن تبيع نفسك لله فتهون عليك روحك ما دام في جنب الله مصرعُك.
وكل ذلك باب واحد في الحب، فلينتبه إليه من كان فقيهًا بتلك الأبواب العظيمة.
القاعدة الرابعة: الحب حلال، وهو من طبعِ النفس لا سلطانَ للإنسان عليه، ولا يؤاخذ الإنسان عند الله إلا إن هَتَكَ بحبِّه مُحرمًا.
في الصحيح من حديث ابن عباس: أن زوج بريرة كان عبدا يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس: «يا عباس، ألا تعجبُ من حبِّ مغيثٍ بريرة، ومن بُغضِ بريرة مغيثًا» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو راجَعَته» قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: «إنما أنا أشفع» قالت: لا حاجة لي فيه.
قلت: وفي هذا الحديث أصلٌ عظيم من أصول مراعاة هذا الدين الحق للجبلة الإنسانية فهو يهذبها ولا يعاندها، فهذا رجل يحب امرأةً لا تحل له، وأنت ترى حبَّها وقد ملك عليه قلبه، وشارف به على الهذيان؛ فبينا كانت أمس زوجته، إذا هي اليوم امرأة أجنبية عنه، فأضحى ماءُ قلبه ورواء روحه سرابًا كأن لم يكن.
فهل رأيت نبي الرحمة ينهاه، ويقول له حبك لها حرام؟
لا. فهذا الحب من قولِ القلب وعمله، لا سلطانَ للرجل عليه، ولا يحاسبه الشرعُ عليه، ولا على لوعة نفسه وبكائه، فتلك لواعج النفس لا يعاندها الشرع، لكن الشرع ينظر: هل تقول حرامًا أو تفعل حرامًا؟
أما هاهنا = فلا.
يقول الحافظ مغلطاي: ((وقد أجمع العلماء: أن الحب ليس بمستنكَرٍ في التنزيل، ولا بمحظورٍ في الشرع)).
وفي شرح البخاري لابن بطال: ((لا حرج على مسلم في هوى امرأة مسلمة وحبه لها، ظهر ذلك منه أو خفي، ولا إثم عليه في ذلك، وإن أفرط فيه ما لم يأتِ محرمًا)).
يا أيها الرجل الذي قد جبله اللهُ على خِلقةٍ ثم لم يعاندها بشرعه:
ليحزنَ قلبك وتدمعَ عينك في الموت، ولينتفض قلبك، وتضطرب جوارحك في الحب، ثم إن الله جعل ما بعد ذلك قولًا وفعلًا منه حلال ومنه حرام، ولا يؤاخذك الله إلا على أقوالٍ محرمة بيِّنة، وأفعال محرمة بينة، متى اجتنبتها= لم يؤاخذك الله بقلبك هذا، بل لو شئنا الدقة: إنه يرحمك ويرفق بك، ويحب لك الخير.
وأنت مأمور فقط بجهاد نفسك عن المعصية، وأن تطلب الزواج بمن تحب فإنه لم يُرَ للمتحابين مثل النكاح، فإن تعذر الزواج فادفع عن نفسك خواطر المحبة؛ كي لا تقودك لمحرم، ولست مأمورًا بإزالة هذا الحب بالكلية.
يقول ابن تيمية: ((وقد ذكر الناس من أخبار العشاق ما يطول وصفه، فإذا ابتُلى المسلمُ بعض ذلك كان عليه أن يُجاهد نفسه في طاعة الله تعالى وهو مأمور بهذا الجهاد، وليس هو أمرًا حرَّمه على نفسه فيكون في طاعة نفسه وهواه؛ بل هو أمرٌ حرمه الله ورسوله ولا حيلة فيه، فتكون المجاهدة للنفس في طاعة الله ورسوله)).
القاعدة الخامسة: العلاقة الخاصة هي واحدة من أعظم دعائم المحبة بين الرجل والمرأة.
كالجنس مطلوبٌ ومذموم، العرب كانت تضرب للشعير مثلًا أنه مأكول ومذموم، فالناس يذمونه بينما هم لا يستغنون عنه.
حسنًا الجنس كذلك.
ممكن حد يقعد يرص لك كلام كبير فيه كلمة شهواني ونزوات وحيوانية وجسد وحاجات كبيرة كدا، بينما هو نفسه لا يستغني عن الجنس إلا إن كان فيه خلل جسدي أو نفسي.
هناك أثرٌ للمسيحية -المحرفة بلا شك- في التعامل مع موضوع الجنس على إنه حاجة مقرفة أو مدنَّسة لا تليق بالطهر والقداسة.
أفلاطون طبعا بريء تماما من الفهم الساذج المسمَّى بالحب الأفلاطوني.
يمكنك أن تقدم تفسيرات لَوذَعية كما تشاء لتعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، لكن كيف تفسر أنه صلى الله عليه وسلم كان «يطوف على نسائه، في الليلة الواحدة، بغسلٍ واحد، وله يومئذ تسع نسوة».
نعم يجامع التسعة في ليلة واحدة ثم يغتسل غسلًا واحدا، وكان إذا جامع ولم يغتسل توضأ، رجلٌ تامُّ الرجولة صلى الله وسلم على من كَمُلت صفاته، وسادت شمائلُه الناسَ.
المتصدر لمناقشة شبهات المستشرقين ومن يشبههم يرتبك عادة ويظن أن الشهوة رجس يجب تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عنه= وكل ذلك ألقاه شيطان الجهل في قلبك لأنك مغروس بمسيحية ترى الشهوة دنسًا، وحب النساء عيبًا.
الله عز وجل جعل من نعيم الجنة الحورَ العين، فيأتيك مستشرق أو علماني غارق في الفواحش ويكلمك عن النعيم الشهواني، الشهوة ليست عيبا، والجنس ليس دنسا، وكان حقًا على الله إكرام عباده المؤمنين، من عف منهم وأَحصن فرجه وتاب الله عليه من خطئه.
في الواقع، الجنس هو واحد من أعظم عطايا الخالق لمخلوقاته، شعبةٌ من نعيم الجنة تم إلقاؤها في الدنيا لتكون سعادةً لمن طلبها بحقها وبابًا للابتلاء؛ أَيَقِفُ الناسُ عند حدود الله أم يجعلون النعمة بابًا للنار؟
ومن كمال أنوثة المرأة أن تحب هذا وتطلبه، وعفَّتُها ليست في خُلُوِّها من ذلك، بل في وضعها ذلك موضعه الحلال فلا يُفض خاتمها إلا بحقه.
من رَزَقَه الله الفقهَ الحسن وكمالَ الرجولة= أحبَّ النساء، وعظَّم العلاقة الجنسية جدًا؛ فإنها من أبوابِ السعادة والنعيم في الدنيا والآخرة، ثم لم يطلب كل ذلك إلا من حيث أباحه الله، ومن حيث أقام هو فيه حدود الله.
القاعدة السادسة: الحب الحقيقي لا يموت.
نعم لا يموت، قد يتوارى، ويسمح لك بأن تُراكِم فوقه ما يستره ويخفيه، لكنه لا يموت.المعجوز عنه لا يموت إن كان حبًّا حقًا، لكن تجاوزه ونسيانه ضرورةٌ للعيش.
الحب حقًا لا يزول، نحن نحاول أن ننساه، نجتهد لكي يغفل القلب عنه، لكنه هناك، ربما يتوارى، لكنه لا يزول.
أزلته؟
لم يكن حبًا إذًا.
القاعدة السابعة: لكن الحب إذا عجزت عنه يصبح نسيانُه ضرورةً للعيش.
وكان الألم في الأيام الأولى للفراق كالمجنون في هذيانه ووسوسته، ولو طال به الأمد على ذلك لقضي عليه، ولكنه نجا من تلك المرحلة الخطيرة بفضل اليأس الذي وطّن النفس عليه من قديم، فانسرب الألم إلى مستقَر له في الأعماق يؤدي وظيفته من غير أن يعطِّل سائر الوظائف الحيوية كأنه عضو أصيل في الجسم أو قوة جوهرية في الروح، أو أنه كان مرضًا حادًّا هائجًا ثم أزمن فزايلته الأعراض العنيفة واستقر، غير أنه لم يتعز – وكيف يتعزى عن الحب، وهو أجلّ ما كاشفته الحياة ؟
ولكنه كان يؤمن إيمانا عميقا بخلود الحب، فكان عليه أن يصبر كما ينبغي لإنسان مقدور عليه بأن يصاحب داء إلى آخر العمر. [نجيب محفوظ- قصر الشوق].
القاعدة الثامنة: اشفع في المحبة، واسلك بها طريق الخير.
بَوَّب ابن القيم في كتابه روضة المحبين بابًا في رحمة المحبين والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يبيحه الدين.
وقال: ((وهي من أفضل الشفاعات وأعظمها أجرا عند الله فإنها تتضمن اجتماع محبوبين على ما يحبه الله ورسوله ولهذا كان أحب ما لإبليس وجنوده التفريق بين هذين المحبوبين)).
القاعدة التاسعة: ثم إن نبيك صلى الله عليه وسلم قد أحب.
عن عائشة، قالت: ما غِرتُ على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، إلا على خديجة وإني لم أدركها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذَبَحَ الشاة، فيقول: «أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة» قالت: فأغضبته يوما، فقلت: خديجة فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني قد رزقت حبها».
لا تعليق