هذه هي الحلقة الأولى في منهاج علم النفس الذي يخص به الدكتور محمد عثمان نجاتي
قراء مجلة (حياتك) وسيوالي، في الأعداد القادمة حلقات المنهاج.. تباعًا..
1- لماذا ندرس علم النفس؟
للدكتور محمد عثمان نجاتي
أستاذ علم النفس المساعد بجامعة القاهرة
الإنسان وحب المعرفة:
لقد اهتم الإنسان منذ فجر التاريخ باستطلاع حقائق الحياة واستكشاف أسرار الكون. وكان يدفعه إلى هذا البحث حب قوي للمعرفة والفهم، ورغبة شديدة في استخدام هذه المعرفة لخدمة أغراضه، وتحقيق رفاهيته وسعادته.
نشأة العلوم الطبيعية:
ولقد اتجه تفكير الإنسان في أول الأمر نحو البحث في الأحداث الطبيعية المختلفة التي تحيط به. ففكر في السماء وما فيها من نجوم وكواكب، وبحث في الأرض وما يجري فيها من أنهار، وما يحيط بها من بحار، وما يراه فيها من عناصر ومواد وأشياء مختلفة.. ونشأت من هذا البحث والتفكير علوم الفلك، والطبيعة، والكيمياء.
واستمر الإنسان يواصل بحثه في الطبيعة حتى وصل من علمه بأسرار الكون إلى حد كبير، فاستطاع أن يدير الآلات، ويشيد المصانع، ويزيد من كمية الإنتاج ويهيّء لنفسه كل وسائل الراحة والمتعة والحياة الرغدة. كما استطاع أن يجوب البحار، ويحلق في الفضاء، ويفتت الذرة، ويرسل الصواريخ والأقمار.
نشأة العلوم البيولوجية:
ولم يقف تفكير الإنسان عند حدود العالم الطبيعي المادي، بل اتجه تفكيره أيضًا إلى وظائفه البدنية المختلفة. فبحث في الدورة الدموية، وفي الجهاز الهضمي، وفي وظيفة المخ وعلاقته بالسلوك الإنساني، وفي تركيب أعضاء الجسم، وفي الأعصاب الحسية والحركية وكيفية انتقال السيال العصبي فيها، وفي غير ذلك من الموضوعات التي ترمي إلى زيادة فهم الإنسان لبدنه ووظائفه المختلفة. وقد نشأت من هذه الأبحاث العلوم البيولوجية، والطبية.
نشأة علم النفس:
ولم يقف تفكير الإنسان عند حدود وظائفه البدنية، بل تجاوزها إلى وظائفه النفسية، فأخذ يفكر في مصدر الإحساسات والمشاعر، وفي الدوافع والانفعالات المختلفة، وفي الإدراك، والتذكر، والتخيل، والتفكير، وفي الإرادة والذكاء، وفي التعلم واكتساب العادات والاتجاهات المختلفة… الخ، ومن هنا نشأ علم النفس، كما نشأت كذلك بقية العلوم الإنسانية والأخلاق والاجتماع.
تطور علم النفس:
ولم يبلغ علم النفس في أول الأمر من الدقة والتقدم والرقي مثلما بلغت العلوم الطبيعية والبيولوجية، وذلك لأن موضوع تلك العلوم أشياء خارجية واقعية يمكن ملاحظتها بسهولة، ويمكن تطبيق مناهج البحث العلمي عليها بدقة، أما موضوع علم النفس فأحداث ذاتية داخلية لا يمكن ملاحظتها بسهولة، فضلًا عن أنها كثيرة التعقيد والتركيب، ويؤثر فيها كثير من العوامل التي يتعذر فصلها لدراسة كل منها على حدة ولهذا السبب تقدمت العلوم الطبيعية، والبيولوجية، والفسيولوجية مبكرًا تقدمًا ملحوظًا، بينما تأخر تقدم علم النفس نسبيًا.
غير أن علماء النفس قد استطاعوا بمثابرتهم في البحث، وبابتكارهم لكثير من المناهج العلمية الجديدة، وبتطبيقهم لهذه المناهج في دراسة مختلف أنواع النشاط الإنساني، أن يتقدموا بعلم النفس تقدمًا كبيرًا حتى أصبح علمًا معترفًا به كغيره من العلوم الطبيعية والبيولوجية.
ولم تقتصر أبحاث علم النفس على دراسة الخبرات الشعورية.. بل امتدت أيضًا إلى دراسة الخبرات اللاشعورية. ففسّر العلماء غور النفس الإنسانية وغاصوا في أعماقها، وبحثوا في الدوافع اللاشعورية التي تكمن وراء معظم أفعالنا، وتصرفاتنا، وانفعالاتنا..
القرن العشرون قرن العلوم النفسية:
وهكذا اتسعت دائرة البحث في علم النفس، وتقدمت مناهجه تقدمًا عظيمًا مما دفع بعض علماء النفس إلى القول بأن القرن العشرين قد يتميز فيما بعد في التاريخ بأنه قرن العلوم النفسية.
حدود علم النفس:
وبالرغم من هذا التقدم السريع العظيم الذي أحرزه علم النفس الفتى الناشئ، إلا أنه لم يبلغ بعد من الكمال ما يرجوه له علماء النفس. فما زلنا نحتاج إلى زيادة معلوماتنا عن طبيعة النفس الإنسانية، كما أننا ما زلنا نحتاج إلى تطبيق معلوماتنا العلمية على كثير من أوجه النشاط الإنساني.
إن علماء النفس لا يستطيعون حتى اليوم أن يتنبأوا بالسلوك الإنساني تنبؤًا دقيقًا كما يستطيع علماء الطبيعة أن يتنبأوا بالأحداث الطبيعية. فقد استطاع علماء الطبيعة مثلًا أن يطلقوا الصواريخ والأقمار في الفضاء، واستطاعوا أن يحددوا مدارها ويتحكموا في سيرها. أما علماء النفس فإنهم لم يستطيعوا حتى اليوم أن يتنبأوا بالأحداث الإنسانية والاجتماعية والسياسية تنبؤًا دقيقًا، كما أنهم لا يستطيعون أن يتحكموا في توجيه السلوك الإنساني التحكم الكامل… غير أنه لا يجب أن ننسى أن علم النفس ما زال ناشئًا، وأنه ما زال ينمو ويتطور بخطوات كبيرة فسيحة.
تطبيق علم النفس على حياتنا اليومية:
ومن جهة أخرى فإن تطبيق علم النفس على حياة الإنسان ما زال قليلًا، ووسائل استفادة الناس به في أوجه نشاطهم المختلفة ما زالت محدودة… ويظهر ذلك واضحًا إذا ما قارنا أوجه استفادة الناس من العلوم الطبيعية بأوجه استفادتهم من علم النفس. إننا نلاحظ بوضوح أننا نستفيد من تقدم العلوم الطبيعية في جميع مرافق حياتنا فنحن نضيء بيوتنا ومصانعنا ومتاجرنا بالكهرباء، ونحن نستخدم في بيوتنا الثلاجات الكهربائية، وآلات تكييف الهواء وماكينات الحياكة، وأفران (البوتاجاز)… ونحن نسير الآلات في المصانع، ونستخدم السيارات والقطارات والبواخر، والطيارات في تنقلاتنا… الخ. إننا نستفيد من تقدم العلوم الطبيعية في رفع مستوى معيشتنا، وفي الترفيه عن أنفسنا وفي التغلب على مشاكل الحياة في كل ناحية من نواحي حياتنا اليومية والاجتماعية.
ولكن ما هو وجه استفادتنا من علم النفس؟ إن أغلب الناس لا يزالون حتى اليوم يجهلون الكثير من علم النفس. وحتى هؤلاء الذين يعرفون شيئًا عن علم النفس لا يطبقون ما يعرفون على حياتهم تطبيقًا مفيدًا. وإن نتيجة جهل الناس بعلم النفس لتظهر بوضوح فيما نشاهده حولنا من مشاكل نفسية واجتماعية كثيرة… فكثير من الأمهات لا يزلن يجهلن حقيقة الدوافع لكثير من تصرفات أطفالهن وهن غالبًا ما يعجزن- لهذا السبب- عن توجيه أطفالهن توجيهًا سليمًا، وما زال كثير من المدرسين عاجزين عن فهم شخصيات تلاميذهم فهمًا صحيحًا ومعرفة العوامل المختلفة النفسية والاجتماعية التي أثرت في كل منهم، وكونت سمات شخصياتهم المتباينة. وما زال كثير من الناس يجهلون الأسباب التي تدفع بعض الناس إلى الانحراف، أو الشذوذ أو الجريمة…
تطبيق علم النفس على المشكلات الاجتماعية والدولية:
ثم إذا نظرنا إلى المجتمع الإنساني في عصرنا الحديث لراعنا ما فيه من اضطرابات، وجماعات، وتعصبات، وضغائن طائفية، وجنسية، ودولية، فالعمال في صراع دائم مع أصحاب العمل. والنقابات والأحزاب والطوائف المختلفة في صراعٍ بعضها مع بعض لكثير من الأسباب. والنساء في صراع مع الرجال حول بعض الحقوق. بل إن الشعوب في صراع دائم في معركة القوة والسيطرة على مصادر الثروة في العالم. وقد تحولت في هذه المعركة جهود العلماء من مسالكها النبيلة السامية التي تهدف إلى رفاهية الإنسانية وسعادتها، إلى مسالك شريرة تهدف إلى التدمير، والهدم والقضاء على الإنسانية.
إن مثل هذه المشكلات الاجتماعية والدولية إنما هي مشاكل نفسية في أساسها، ويمكن دراستها وتحليلها من ناحية الدوافع النفسية والانفعالات والاتجاهات والتعصبات التي تتحكم في تصرفات الناس وأفعالهم… غير أن معرفة الناس بعلم النفس لم تصل إلى الدرجة الكافية التي تمكنهم من تطبيقها على حياتهم النفسية والاجتماعية لحل مشكلاتهم، والتغلب على ما في نفوسهم من قلق، واضطراب، وصراع، ومخاوف، وأطماع، ونوازع عدوانية شريرة… فلو فعل الناس ذلك لاستطاعوا أن يحققوا في حياتهم النفسية، وفي علاقاتهم الاجتماعية والدولية ذلك الرقي والتقدم الذي حققوه في مرافق حياتهم المادية والتجارية والصناعية…
لماذا نهتم بدراسة علم النفس؟
ولهذا السبب يجب أن نهتم بدراسة علم النفس، وبتطبيقه على حياتنا النفسية والاجتماعية. فإذا فعلنا ذلك استطعنا أن نحقق شيئًا من التوازن والتعادل بين التقدم الذي أحرزناه في العلوم الطبيعية التي تسخر المادة وتزيد في زهونا وكبريائنا، وقد تدفعنا إلى العدوان والهدم والتدمير، وبين التقدم في علم النفس الذي يقوي شخصياتنا، ويعدل اتجاهاتنا، ويقوم تفكيرنا ويجعلنا أقدر على حسن التصرف وأقدر على ضبط السلوك وتوجيهه والتحكم في الانفعالات والعواطف، وبتحقيق هذا التوازن والتعادل يتم التكامل والتوافق بين جميع نواحي شخصية الإنسان، ويمكن تحقيق. . السعادة التي نرجوها للبشرية..
– نُشر أولًا بموقع حياتك.
لا تعليق