الصداقة فيما أرى هي أهم العلاقات الإنسانية بعد علاقات الرَّحم والزواج، وهي رَغم ذلك من أقل العلاقات التي ينشغل الناس بفقهها، وتعلُّم أساسياتها ووسائل النجاح فيها.

      وهذا المقال محاولةٌ لصوغ بعض هذه الأساسيات، على نحوٍ يضع الصداقة في موضعها الجليل الذي تستحقه، ويُعيننا على الانتفاع بخيرها.

القاعدة الأولى: لا تُوسع دائرة الصداقات.

      كثير من الخيبات التي تقع للناس في الصداقة نابعة من كونهم وسَّعوا دائرة من يُدخلونهم في حزام الصداقة، حتى أدخلوا فيها من لا يستحق، فوجدوا من ذلك ما يكرهون.

      والصواب: هو التفريق بين دائرة المعارف والزملاء وتبادل المنافع والمصالح على درجاتِ عمق وصلابة العلاقة مع الداخلين في هذه الدوائر= وبين دائرة الصداقة التي يَستوجب من تُدخله فيها استكمال بعض الخصائص والشروط الزائدة على من يدخلون في دائرة المعارف والزملاء، وهذه الخصائص والشروط ستظهر لك مع تدرُّجك في قراءة باقي القواعد.

القاعدة الثانية: الانتقاء على المعادن.

      أكثر الناس لا يُحسنون الصحبة على الشَّعث، ولا الانتقاء على المعادن، يختارون أصحابهم على شرطٍ لو اختيروا هم عليه= لما صاحبهم أحد.

      فليست شروط الصداقة مثالية؛ فأنت نفسك لست مثاليًّا، لكن الشرط الأساسي هو جودة معدن الشخص، وحسن أخلاقه، وتوفر أساسيات الدين وخشية الله فيه، ووجود قواعد الالتزام بقيم الحق والخير عنده، قد يوجد في كل ذلك بعض النقص، أو يقع فيه من حينٍ لآخر بعض التهاون والزلل، لكن وقوع هذا الزلل في الحدود الدنيا، وعدم غلبة حدوثه على الشخص، وعدم التذاذه وفخره به= هو معيار جودة المعدن، ومتى وقع الخلل والزلل فأنت تنصح وتستصلح، وترجو منه أن يفعل مثل ذلك معك.

القاعدة الثالثة: تعلَّم متى تتوقف عن الثقة بجودة المعدن وترى السوء على حقيقته.

      تُبنى الصداقة في البداية على نوعٍ من التآلف النفسي، ولا يُشترط أن يصحب ذلك اتفاق في الطباع، وتُبنى كذلك -إن كنتَ ممن يراعي جودة المعدن- على درجةٍ من الثقة والظن بجودة المعدن، وكلما حصل ما ينافي هذه الثقة= فإن الشخص يردُّ ذلك إلى مساحة الزلل والنقص الذي لا يخلو منه أحد.

      حتى تبدأ مساحة الزلل والنقص في الاتساع، لكن مع ذلك ولوجود ما تحبه ويناسبك في الطرف الثاني= فأنت تستمر في تجاهل دلائل وجود الخلل في المعدن، وتستمر في التعويل على الصلاح والاستصلاح، وهذا حسنٌ، إلا أن له حدًّا يجب أن يتوقف عنده، وأن تعترف ساعتها بخطئك في تقدير المعدن، وأن تحكم بأنه لا يوجد معدن رديء بالكلية، وكل رداءة فمعها شيء من الجودة، وأنك اغتررت بالجودة فخدعتك عن غلبة الرداءة وكثرتها، فساعةَ أدركت ذلك كله= يجب أن تتوقف، وليس من شرط التوقف قطع العلاقة، ولكن النزول بها إلى منزلةٍ أدنى في القرب والوصل هو الواجب؛ فإن المعدن الرديء سيخونك، ولا شك مهما طال زمن وفائه لك.

القاعدة الرابعة: الصداقة تضحية.

      إن ميزان الصدق في دعاوى المحبة والصحبة هو التضحية، وتبادُل هذه التضحية بين شريكي الصداقة، فتفارق أنت ما تحب لأجل هوى صاحبك تارة، ويفارق هو ما يحب لأجل هواك تارة، وهذا كله من أظهر موازين الصحبة وجودتها، وصحبةٌ لا تجد صدقها في التضحية= لا خيرَ فيها.

وصحبة لا تجد فيها -عند القدرة منه والحاجة منك- مواساةً باللسان، والوقت، والبدن، والمال، والجاه والعلاقات= لا صدقَ فيها.

القاعدة الخامسة: العبرةُ في خصال الصحبة بغَلَبَة وجودها، لا بأمن فقدها.

      العبرة في خصال الصحبة كما في خصال الخير والأخلاق الحسنة كلها= بغلبة وجودها، لا بألا تفقدها في صاحبك أحيانًا؛ فكلنا معرضون للخلل والنقص؛ فنحن بشر، لسنا ملائكة ولا معصومين، نخطئ فنُراجِع، فنندم، فنتوب، فتزل أقدامنا، ونجاهد أنفسنا، ونراجع، ونندم، فنتوب.

      ولا يحاسب اللهُ الناس على توفيتهم شُعَب الإيمان ومكارم الأخلاق حقها؛ فإن ذلك لا يكاد يبلغه أحد، ولذلك شرع الله الاستغفار وسؤال القبول والإعانة عَقِبَ العبادات.

      وإنما الشأن والمحاسبة: على الوعي بالحق، ومجاهدة النفس على التحلي به، ودوام التوبة والاستغفار من كل سقطةٍ وذنبٍ ونقص.

      فلا تُحاسِب صاحبَك محاسبة الشحيح يلوم على فقد الدرهم، وإنما كن سخيّ النفس، مقيلًا للعثرات، ملتمسًا للأعذار عند الزلات، ومن وَثِقَ بالمودة لم يلتفت للهفوة، وإذا استسمحك صاحبك فسارع للعفو؛ فإن الكريم إذا استُسمح لان.

      ولكن لا تبالغ في هذا، وتعلَّم متى تتوقف عن اعتبار ما هو في الحقيقة من فساد الصحبة وسوء العشرة= زللًا عارضًا.

القاعدة السادسة: لا صداقة بلا خلاف ونزاع.

      النزاع والخلاف بل والتقاطع والتدابر أحيانًا= يقع في الصداقات الجيدة والقوية، بل أحيانًا يكون من دعائم قوتها؛ لأنه يُعين على صياغة حدود العلاقة، ومعرفة ما يحب كل منكما وما يكره، فالضربة التي لا تكسرُ الظهر تقوِّيه، لكن احذر أشد الحذر من العيب التالي:

      يصاحب الرجلُ أخاه، وهو يرى منه هذا العيب فيغضي، وذاك الخطأ فيعفو، حتى إذا أتت لحظة خصومة معينة = ذهب يجترُّ تاريخ ما أغضى فيه، ويستحضر تعداد ما عفا عنه.

      وليس ذاك من هَدي الكرام؛ فإن الكريم يُعاتِب ولا يُحاسب، وإذا عاتب لم يسرد سرد من يحشو صدره بالضغينة.

      ومهما بلغت خصومتك مع رجل= قل له ما عندك بخصوص موضع الخصومة وانصرف، ولو قاطعته بعد ذلك وأنهيت علاقتك معه، لكن لا تحرص على أن تشفي صدرك منه بالكلام؛ لأن ما يُقال في هذه الساعة من تلاسن يكون أوسع من موضع الخصومة، ويُثير من الإحن والأحقاد ودفائن القلوب ما يظل حيًّا لا يُنسى ولو حدث الصلح بعدها.

جراحاتُ السنان لها التئام *** ولا يلتام ما جرح اللسان.

وإنَّ صديقًا إذا غضب لم يقل إلا حقًا= صديقٌ حقيقٌ أن تعضَّ عليه بما تملك من قلب وجوارح، واحذر من طريقة سوء: أن تَستغضب صاحبك تختبر أخلاقه في الغضب؛ فإن امتحان الناس شرٌّ كله، وإنما يُختبَر الناس بما يحدث في مجرى الحياة لا بما أعددت عدَّته كأنما هو كمين افتراس.

القاعدة السابعة: الصديق ليس قاضيًا ولا جلّادًا.

      النصيحة دين، والسكوت عنها مداهنةٌ للصديق، ليس من حسن الصحبة قبل أن يكون غشًّا في الدين، لكن آخر ما يرجو الصديق من صديقه أن يكون قاضيًا وجلادًا، وإن التلطف في إبداء النصيحة، وإتيانها من أحسن وجوهها= شيءٌ تزداد ضرورته في الصداقة، وربما كانت المسالك غير المباشرة، والإشارات الخفية، وسَوقُ ما تراه حقًا مساق الاقتراح المحتمل، ودُلجة الخصوص، وأن يشعرَ أنك ظهرٌ له ولست عونًا للمفسدين عليه= كل ذلك من فقه نصيحة الأصحاب.

      ومن أكثر ما رأيته يُفسد الصحبة أن يغفل الصاحب عن هذا، فتجده وقد رأى صاحبه تَجلِده سياطُ النقد عدلًا وظلمًا، فإذا هو يتناول سوطَه ويقف في وسط الجمهور لا يَبينُ لصاحبه وسط الزحام، حتى إذا بان لم يَبِن منه إلا سوطه.

      ثم اعلم أنه مما شاع في الناس أن اتخاذ العتاب قاعدةً يُصلح العلاقات، وإني أقول لك: إنه لا يُصلح العلاقات مثل التغافل والصَّفح والنسيان وسلامة الصدر وتنقية النفس، فلا كثرة المصارحة والعتاب تُصلِح العلاقات، ولا أن تَطويَ نفسك على الملامة وتَخزنها على الضغينة من خطأ صاحبك يُصلحها، والصَّفح الجميل صفحٌ بلا معاتبة.

أردت عتابكم فصفحتُ: إني *** رأيتُ الهجر مبدأه العتاب

القاعدة الثامنة: أوالي من واليت وأعادي من عاديت= تلك حميَّة الجاهلية، وليست صداقة حقَّة ولا إخوة إيمانية.

      قد اعتدنا أن نرى هذا من مفسدات الصداقة؛ إذ يطالب كل واحد منهما صاحبه بأن يُشاركه نظرته، مواليا مَن يواليه، معاديًا من يعاديه. والحقيقة أن هذا غير لازم، فالناس يختلفون في تقديرهم لمنازل الناس ورُتبهم ومنازل صوابهم وخطئهم، وقد يقع أن يعادي صديقك من لا تجد مبررًا لعداوته، وقد توالي أنت من يجد صديقك أن موالاته فساد.

      لكن مع هذا، فممَّا يجب أن تنتبه له: هل معاييرك التي خالفتَ بها صاحبك هي معاييرٌ سليمة، أم أن فيمن يعاديه صاحبك من الصفات والأخلاق والأفعال ما يستوجب في الدين والخلق القويم أن تعاديه وتفاصله؟

      إن من الناس ناسًا يحرصون على أن يكون لهم لسانُ صدقٍ عند الناس فلا يُغضبون أحدًا، ويتفاخرون بأنه لا عداوةَ بينهم وبين أحد.

      وإن من الناس ناسًا يتوسعون في المفاصلة، ويسرفون في المعاداة، ويجعلون من إحقاق الحقِّ وإنكار المنكر حُجَّةً لهم يبررون بها كثرة الفساد في علاقاتهم.

فالأولون: مُداهِنون، الواحد منهم لا يُحلِّي ولا يُمر؛ فإن مَن أحقَّ الحق وقام بالصدق وكانت له مواقفه الأخلاقية الواضحة= قلَّما يرضى عنه الناس كلهم. وجُبنُ الموقف هو الاسم الصحيح لكثيرٍ مما يسميه الناس: ذكاءً اجتماعيًا.

والآخرون: ضعيفو السياسة، لا يملكون من فقه النصيحة، وذكاء الخطاب، وحسن اختيار المقامات ما يتفادون به مُعارَكة طواحين الهواء، وإفساد الحق بسوء اختيار مقامه وخطابه وعدته وإهابه.

      وبين هذين الطريقين طريقُ السادة الفقهاء، من يُحسنون حبسَ طبع نفوسهم ألا يَفسد به عيشُهم وخطابهم واختياراتهم ومواقفهم، فيزِنون للولاية والعداوة، وللحق وخطابه ما يكونون به وسطًا بين هؤلاء وأولئك.

      فجاهد نفسك أن تكون من أهل هذا الصراط المستقيم، وليس شرطًا أن تبلغ تمام ذلك، لكن استمر بالمحاولة، وتلطَّف لصاحبك في ولائه وعدائه، وإن لم تجد منه مراعاةً لذلك، وطلب منك أن توافقه في طريقته، ورأيتها أنت من سوء السياسة= فدارِهِ وأعرض عن موافقته وأَبِن له رأيك بِلِينٍ ما استطعت.

القاعدة التاسعة: قد تقوم الصداقة بلا مصلحة، لكن لا صداقة تقوى بغير مصالح.

      مما يشيع في ألسنة العامة وينتشر بينهم صناعةُ علاقةِ تناقضٍ بين الصداقة والصحبة وبين المصلحة، بحيث يظنون أن الصداقة الحقيقية لابد أن تكون خالية من شائبة المصلحة.

      والحقيقة أن هذا الكلام فوق أنه خطأ= فهو جهلٌ بالنفس الإنسانية وطبيعتها، والحقيقة أن الاجتماع الإنساني هو اجتماعُ تبادلٍ للخير والإحسان، واستعانةٍ على تقلبات الدنيا ومِحَنِ الزمان.

      وأكثر الصحبة التي لا يكون بين طرفيها مصالح مشتركة= تكون صحبةً باهتة أشبه بالعلاقة السطحية، وإنما الاعتبار في علاقة المصلحة بالصحبة: أن تنتفع ممن تصاحب، وليس أن تصاحب لتنتفع، أي أن تكون المصالح المشتركة من حقوق الصحبة وليست سببًا للصحبة تتوقف عليه الصحبة.

      كما أن المصالح المشتركة في صورتها الصحية = تكون أوسعَ من المصالح المادية وصورها البراجماتية، وإنما يتسع مجالها لتشمل كل ما ينفع في الدنيا والآخرة مع الحرص عليه.

      وإن أعظم صاحبَين في تاريخ الأمة كان بينهما من تبادل النفع والمصالح الدنيوية والأخروية واستحضار معاني المكافأة= ما يدلُّك على بطلان المناقضة بين الصحبة والمصلحة، أعني النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصِديق رضي الله عنه.

القاعدة العاشرة: الدينُ شعبةٌ من قوام الصحبة، لكن ليس هو وحده ميزان الصحبة.

      اعلم أن الصحبة تفترق عن الولاية الإيمانية؛ فإن الولاية والأخوّة الإيمانية تجعلك أعظمَ حبًّا للرجل بقدر ما هو عليه من الدين وشعب الإيمان، لكن ليس يجب مع ذلك أن يكون الأحسنُ دينًا أحسنَ عشرة وصحبة؛ فإن في طباع النفوس واختلافها واحتياج الصحبة لقدرٍ من التلاؤم والتوافق والتناسب= ما يجعلها كسائر العلاقات الإنسانية يجب أن تكونَ مبنيّةً على حد أدنى من خشية الله وحسن الخلق عند الطرف الآخر، لكن مع ذلك يجب أن تُبنى على خصالٍ أخرى لا يُلام من فَقَدَها؛ إذ ليست من دائرة الطاعات والمعاصي، لكنها من ضرورات استقامة العلاقات، وهي الأمور التي تنتمي لدائرة الطباع، والخصال النفسية والاجتماعية، وهي خصالٌ لا يُعاب من اختلف عنك فيها في دين وخلق، ولكنك لا تطيق أن تعايش من فقدها ولا أن تعاشره.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *