عندما أتم ذلك الرجل ذو المظهر الجاد ارتداء بذلته السوداء وتوجه إلى منزل (مسز باين) لكي يطلب يد ابنتها الأرملة، كان الكل يتوقعون أن تفشل هذه الزيجة المنتظرة، ويتكهنون بأنها لن تستمر إلا شهورًا معدودات!

وأسر (جنيس ماديسون) برغبته في أذن السيدة (دوريثا) آملا أن يربط حياته بحياتها، ولدهشة الجميع لم تمانع أبدًا، وقبلت العرض بمنتهى السرور!

كان فرق العمر بين الزوجين يقرب من عشرين عامًا.. وكان الزوج من عائلة متوسطة ميسورة، وأما الزوجة فابنة رجل أعمال فشل في كل عمل قام به، ولها من زوجها الأول طفل صغير، وكانت تعلم تمام العلم أن خطيبها الجديد قد أصيب إثر تخرجه في الجامعة مباشرة بمرض السوداء (الملانخوليا)، وكان هذا سببًا كافيًا لكي ترفضه فتاة أخرى صغيرة السن طلب يدها وهو لما يناهز بعد الثانية والثلاثين!.. وباختصار كان العروسان أقرب إلى الاختلاف الشديد منهما إلى الاتفاق والتفاهم، كأنهما الليل والنهار في تباينهما وعدم اتفاقهما.

ورغم هذا فلم تتردد (دورثيا) في الاقتران بجيمس ماديسون بقامته القصيرة، وخجله، ومشيته التي يحجل فيها كي يبدو أطول مما هو عليه حقيقة! فلقد كانت تثق في نفسها وفي كفايتها وقدرتها على تحقيق النجاح لزوجها، معنية بكل ما بينها وبين زوجها من فروق. ونجحت دورثيا!..

نجحت في زواجها، واستطاعت أن تدفع زوجها نحو المجد. كانت هي أقرب إلى السمنة، ميالة للمرح شأن البدينات، وكان زوجها هزيلًا، مكتئبًا، قلقًا ولكنه استطاع بفضلها أن يتغلب على كل ما به من عيوب، وحققت دورثيا ما كانت الملائكة تخشى الإقدام عليه، وكانت تخرج معه بعد كل موقعة يخوضانها معًا وعلى فمها ابتسامة النصر! واستطاعت في النهاية أن تستمتع بكل ثمرات الانتصار وهي ترى زوجها مستر ماديسون وقد أصبح رئيسًا للولايات المتحدة!

وكانت (جوليا وارد) الفاتنة ذات الشعر الأحمر تعتبر من أكثر الفتيات حظًا وسعادة. فوالدها من كبار أصحاب الأموال في مدينة نيويورك. وكانت تحيا حياة اجتماعية مرحة، وتستمتع بكل ذرة من عمرها. وكان شباب أمريكا يتهافتون عليها تهافت الفراش على الضياء وكلهم من أصحاب الجاه والثراء.. حتى لقد قيل عنها أن الرجال لا يعجبون بها ولكنهم ينحنون تحت أقدامها!

وفي الرابعة والعشرين من عمرها تزوجت المصلح الاجتماعي (صامويل جريدلي هاو) صاحب العينين الزرقاوين الحادتين، والذي يناهز عمره ضعف عمرها! وكان (هاو) قد اكتسب شهرة بسبب مشاركته في حرب تحرير اليونان، ولنجاحه في التجارب التي أجراها لتعليم الصم والعميان ولم يكن هناك ثمة شيء مثير في الدكتور هاو، فهو برم بالمناقشة يظن أن الحياة لم تخلق إلا لكي تخضع له، ولم يكن هناك ما هو أقدر على تبديد هذا الظن، من نوبات الصداع الفظيع الذي كان ينتابه بين حين وآخر!

وفي رحلة شهر العسل اصطحبت جوليا معها أختها الصغيرة التي تبلغ من العمر سبعة عشرة عامًا. وكانت تديم مداعبة زوجها الكبير في كل مكان وعلى مرأى من كل الناس، وتناديه (يا حبيبي) بأعلى صوتها.. ويا لها من بداية خطيرة!

وعندما حان موعد ذهابهما إلى بوسطن حيث يشرف الدكتور هاو على أحد معاهد الصم، ضيقت الزوجة الحسناء عينيها الرماديتين ورفضت بشدة أن تعيش في المنزل الذي قدمته لهما المؤسسة وقالت العروس الجميلة: (في استطاعته أن يعيش مع البلهاء والصم كما يريد، ولكنني لن أعيش بينهم في بوسطن، هذا المكان السخيف الكئيب!).

وبدت هذه الفترة من عدم التعاون بين الزوج وزوجته كأنها إيذان بفشل الزواج، ولكن جوليا بدأت تتطبع بطباع زوجها تدريجيًا، وتمكنت من تعديل الكثير من أفكارها. وأفلحت أخيرًا في أن تقلع عن حياة الأبهة والفخامة والمرح في المجتمعات الصاخبة، وتؤمن بأن الحب يمكن أن يعيش حتى في كوخ صغير!. وكانت هي تحب زوجها حقًا.

إن ازدياد مدة المعاشرة بين الزوجين كفيلة بتقريب أوجه الشبه بينهما، وهذا راجع في جزء منه إلى التقليد، ولكن أغلبه يكون نتيجة إذعان أحد الزوجين للآخر، والانطواء تحت جناحه.

وقد لا يتشابه الزوجان وقت الزواج.. بيد أن مرور السنوات كفيل بتقريب ما بينهما من اختلاف. والمهم في الأمر أن يصل الشريكان في النهاية إلى المزيد من الفهم والتقارب.. وهذا ما حدث لجوليا وارد. لقد كانت تقول: (إنني بالنسبة لزوجي لست أكثر من مجرد امرأة عادية جدًا) واستمرت على حبها وولائها.. بل وعبادتها له حتى بعد أن انقضى على وفاته أكثر من ربع قرن! وفي الثمانين من عمرها كتبت تقول: (لست أدري لماذا مضى وخلف بقيته هنا على الأرض)، وكانت تعني نفسها!

ووراء قصة (كوخ العم توم) الشهيرة تكمن قصة درامية شائقة تحكي لنا ما يمكن أن تفعله الزوجة الماهرة التي تريد أن توفق في حياتها الزوجية، رغم ما قد يكتنف هذه الحياة من شقاء..

إن (هارييت بيتشر ستو) مؤلفة هذه القصة كانت الابنة السادسة لأسرة تضم من الأبناء والبنات ثلاث عشرة!.. وقد عاشت مع جدتها لأمها حتى توفيت الجدة فانتقلت إلى منزل إحدى قريباتها.

وكانت بيتشر ستو الصغيرة الدقيقة الجسم السريعة الحركة، التي تجيد التقاط الزوايا المضحكة في الأشياء.. كانت لا تنشد الاستقرار. بيد أنها عندما ناهزت الخامسة والعشرين من عمرها أقدمت على خطوة خطيرة.. فقد أخذت على عاتقها أن تواسي أرملَ شابًا كاد الحزن يورده موارد الجنون!.. (كان مدرسًا يجيد اليونانية- والعربية واللاتينية، لا شيء سوى هذا) كما وصفته في خطاب أرسلته لواحدة من أصدقائها. ولكنها تزوجته على كل حال!.

وتحملت حدة أخلاقه، وتشاؤمه، وميله الشديد إلى الحزن. فكانت تكتب في مذكراتها: (عندما أراه مسرورًا أنسى كل شيء!).

وكانت تعالج ثورته بطريقة فريدة.. عنفها ذات مرة لأنها استعملت بيض الدجاج الذي يربيه في صنع العجة، وثار في وجهاه ثورة عنيفة، فما كان منها إلا أن اصطحبت أولادها إلى عشة الدجاج، وجعلت تقلد صوت الكتاكيت الصغيرة حتى ضحك وزال الغضب!

ولقد كتبت هارييت ستو قصتها الخالدة خلال فترة من أعقد فترات حياتها، حين كانت مشغولة برعاية أولادها وزوجها الدائم الحزن والثورة.

وعندما اضطرت للقيام برحلة طويلة لإلقاء المحاضرات شعرت بعزلته وانكماشه حول نفسه، فقطعت الرحلة وعادت معه إلى بيتها. وظلت على الدوام تنظر من الزاوية الباسمة التي اعتادت أن ترى منها الحياة.

ألا ترين يا سيدتي في هذه القصص الثلاث نورًا يضيء سماء حياتك..؟

(للدكتور دونالولارد عن مجلة (يورلايف)

-نُشر أولًا بموقع حياتك.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *