لا زلنا هنا مع تعداد مفاتيح الحياةِ الطيبة والعيشِ السليم، من منظورنا، وقد سبق واستعرضنا معياريةَ الوحي كمعيارٍ رئيسي للحياة الطيبة، ثم أتْبَعنا ذلك بالكلام عن طلب النفع، وتحرِّي الأصلح، واتباعِ الأحسن، كمعيارٍ مركزيٍّ في تعارض الخيارات والقرارات، وهنا ننتقل إلى مفتاحٍ ثالث، ألا وهو: الأدوات.

إن من الأخطاء الشائعة لدى الناس على اختلاف أجناسهم وثقافاتهم، أنهم يظنون صوابَ المعايير، وسلامةَ النوايا، وتحري الأنفع والأصلح= يكفي الإنسانَ لخوضِ الحياة بتعقيداتها وتشابكاتها واختلاف تحدياتها.

وواقع الأمر أن ذلك لا يكفي وحده، من غير تحصيلِ الأدوات اللازمة لخوض هذه الرحلة خوضًا قد أخذتَ له أُهبتَه وجمعتَ له عدته.

ويمكننا القول إن تلك الأدوات مهما تعددت أسماؤها، ومهما تنوعت مجالاتها، أو اختلفت احتياجاتنا منها باختلاف أنشطتنا واهتماماتنا= فإنها جميعًا ترجع إلى ثلاثة أبواب رئيسسة:

الأول: المعارف.

الثاني: المهارات.

الثالث: الخبرات.

أولًا: المعارف

المعرفة؛ هي أعظم أركان أيَّة ممارسةٍ إنسانية، وبدون توفرِ قدرٍ أساسي وضروري من المعلومات، يصعب جدًا أن نرى إنجازًا سالمًا من الغلط أو الخلل.

ولا يوجد أيُّ مجالٍ من المجالات الإنسانية يمكن أن نتكلم فيه عن عملٍ صائبٍ بغير معرفةٍ مؤهِّلة، حتى أبسط أشكال الحِرف اليدوية، والمهاراتِ البدنية لابد لها من قدرٍ ضروري من المعرفة، والذي يُسبب الغلط أن هذه المعرفة يتم اكتسابها بصورة تراكمية غير مدرسية، فيظن أصحابها أنهم لم يحتاجوا للمعرفة، وأن مجالهم غير مفتقِرٍ للتعلم.

وأي إنسان يريد أن يحيا حياة طيبة، يتمتع فيها بما يحبه هو، ويرضاه الله، ويتقن فيها فن اختيار القرارات الصائبة، والعودة من طريق الخيارات الخاطئة، وتمييز الأنفع والأصلح، ويُجوّد ميزان نظره= فإنه لا يستغني – من أجل تحصيل أي شيء من ذلك- عن قدرٍ ضروريٍّ من العلم والمعرفة يجب تحصيله، ثم يتفاضل الناس بعد ذلك في الزيادة على هذا الضروري، وفي جودة تفاعل المعرفة مع المهارة والخبرة.

من غير القدر الوافي من المعارف والمعلومات لا يمكننا أن نحدد تخصصًا، ولا أن نُصقل موهبة، ولا أن نكتسب مهارة، ولا أن ننتفع بخبرة، ولا أن نتخذ قرارًا، ولا أن نزن بين خياراتنا.

إن السعيَ لجودة أي ممارسة إنسانية من غير تحصيلِ القدر اللازم من المعارف يشبه مسافرًا معصوبَ العينين، يخبط في ظلام يحوطه الضباب بلا هداية، ثم يطمع أن يصل!

ثانيًا: المهارات

المهارة؛ هي المقابل العملي التطبيقي للمعلومات، المعلومة هي السلاح، والمهارة هي دقة التصويب، المعلومة هي الحروف وأنواع الكلمات وصور الجمل، والمهارة هي القراءة، المعلومة هي نص القرآن ومخارج حروفه وصفاتها، والمهارة هي التلاوة، المعرفة هي كتيب التشغيل، والمهارة هي إجراءات التشغيل وصولًا لصوتِ الآلة يهدر من حولك، المعرفة هي العلم، والمهارة هي الإجراءات التي تجعل العلم النظري عملًا واقعيًا مشاهدًا.

المهارات هي الإجراءات العملية التطبيقية والتنفيذية، والتي يتفاعل فيها مكون المعرفة مع الواقع واحتياجاته من أجل إنتاج الصورة المرجوِّ حصولها وتأثيرها.

ومهما أوغل مجال الإنسان أو تخصصه في النظرية؛ فإنه لا يستغني عن جانب مهاري، حتى التفكير محور إدارة المعرفة، هو نفسه مهارة لها إجراءات تشغيل وتفعيل.

ومن غير تعلم إجراءات التشغيل للمعرفة، وممارسة تطبيق هذه الإجراءات؛ سعيًا لاكتساب المهارات اللازمة للعيش، واللازمة لجودة العمل، وصحة الخيار، وسلامة القرار= فلا يمكن أن يطمعَ الإنسان في حياةٍ طيبةٍ يحبها هو ويرضى عنها ربه.

ثالثًا: الخبرات

الخبرة؛ هي تراكم التجارب التي قمت فيها بالتفاعل مع واقعك مستعينًا بحصيلتك المعرفية، وقدراتك المهارية، وهذا التراكم الطويل لعمليات التفاعل تلك، والقدرة على معرفة نتائج كل تجربة، وعلى تحليل تلك النتائج من أجل تجويد المعرفة، وصقل المهارة= هو الذي يصل بالإنسان لأحسن ما يمكنه من صواب العيش.

ولتكن واعيًا إلى حقيقةٍ مهمة جدًا، هي: أن التجارب وتراكُمَ الخبرات وحدها لا تنفع، فكثيرٌ من الناس يمرون بتجاربَ كثيرة، ويجمعون خِبراتٍ شتّى، ثم لا ينتفعون بها!

كان مارك توين يسخر قائلًا: “إننا فقط اكتسبنا خبرة معرفة أن هذا الخطأ هو نفس الخطأ الذي ارتكبناه من قبل” .

بمعنى أن التجربة لم تُكسبنا قدرة على تفادي الأخطاء، وهذا صحيح في واقع كثيرٍ من الناس.

 

ومن أعظم المعاني التي قرأتها بخصوص هذا: “أن التجارب والخبرات لا يَنتفع بها الإنسان لمجرد حصولها له، وإنما ينتفع بها إذا وُجد قدرٌ لازمٌ من المعرفة والوعي، والتدبر والتأمل، واستخلاص العبرة، وحساب النفس.

 

بدون التأمل والتدبر في التجارب، وبدون المحاسبة ورصد الأخطاء، وتحليل أسبابها، وتنمية القدرة على استخلاص العبرة، وإنتاج الحلول، وتوفير فرص تفادي الأخطاء= لن ينتفع الإنسان من خبراته وتجاربه، ويظل مدة عمره يكرر أخطاءه.

تلك الثلاثة هي أدوات العيش السليم، وتحصيل تلك الأدوات، والسعي الذي لا ينقطع لصقلها، وشحذ سكينها= هو مفتاحٌ عظيم من مفاتيح الحياة الطيبة.

وإن أعظم القولِ ضررًا، ما كان عن علمٍ ناقص، لا هو علم معدوم فيتورَّعُ صاحبه تورُّع الجاهل، ولا هو علمٌ يكفي للنظر؛ فتكون معه رحمة الله بالمجتهدين – وإن أخطأوا.

وأعظمُ العمل ضررًا، ما كان عن قدرةٍ لا تُجزِئ؛ لا هي معدومة فيقنع صاحبها بعجزه، ولا هي كافية مجزِئة فيحصل الفعل بها على وجهه الذي يرضاه الله، ويعذر صاحبه.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *