للدكتورة رمزية الغريب
أستاذة علم النفس المساعدة بكلية البنات بجامعة عين شمس
في هذا المكان تلتقي بك، أيتها الأم، مرة كل شهر اختصاصية نفسية جمعت إلى العلم الغزير، الخبرة العملية الطويلة لتحدثك عن الخدمات التي يسديها لك علم النفس في سبيل إسعاد حياتك وحياة أبنائك…
كثيرًا ما تحدث علماء النفس عن وجوب العناية بالصغار، وتجنيبهم التوتر النفسي وعدم الاستقرار الانفعالي حتى يشبوا أبناء سعداء، أصحاء جسمانيًا ونفسيًا. ومع ذلك فإن القليل من هؤلاء من عنى بسعادة الأم نفسها، برغم يقينهم أن الأم التعسة يستحيل عليها تربية نشء سليم سعيد، إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه!
وإني إذا أوجه النظر إلى ضرورة توفير السعادة للأم، أنصح بوجوب مراعاة ذلك على الأخص في المجتمع المصري، والمجتمعات الشرقية عمومًا، لأننا لو بحثنا ظروف هذه المجتمعات، لوجدنا في عاداتها وتقاليدها ما يجعل الأم تقع تحت تأثير كثير من الضغوط الاجتماعية التي تشعرها في كثير من الأحيان بالإحباط والتعاسة.. فإذا أضفنا إلى ذلك أن المجتمعات الشرقية تجتاز الآن مرحلة انتقال بين عهد ضيق فيه الخناق على المرأة بصورة تتنافى مع الشريعة الإسلامية في صدر الإسلام حيث تصدرت المرأة مجالس الدين والحديث، وبين عهد يريد فيه البعض الخروج على كل قديم وهدم كل عرف أو تقاليد والارتماء في أحضان الجديد بخيره وشره، أمكننا أن نتبين خطر هذا التنازع بين القديم المتطرف، والجديد المتطرف، الذي جعل المرأة، أم الجيل الحالي والقادم، تعيش في توتر مستمر وعدم استقرار انفعالي ملحوظ!
ويمكننا تلخيص الضغوط الاجتماعية التي تؤثر على الأم المصرية فيما يلي:
الطلاق: سلاح مسلط!
لقد أعطت الشريعة الإسلامية السمحة للرجال رخصة أساء الكثير منهم استعمالها، إلا وهي رخصة الطلاق (أبغض الحلال)، فجعلوها سلاحًا مسلطًا على رأس الأم يهددونها به لأتفه الأسباب خصوصًا في المجتمعات الريفية والطبقات العاملة، مما أشعرها بنوع من عدم الأمان وعدم الاطمئنان إلى استمرار حياتها المنزلية.. فهي لا تدري كم من الوقت ستعيش مع زوجها تحت سقف واحد حتى تعتني بأولادها ولا تحرم منهم لأقل سبب!..
كذلك جرت عادة بعض الآباء في مصر على تمضية معظم أوقاتهم بعيدًا عن أسرهم، منشغلين عنها بالجلوس في المقاهي والأندية، وقد يؤدي كثرة تغيبهم عن أسرهم إلى تزعزع شعور الأم بالأمن ويزداد هذا الإحساس عمقًا إذا اكتشفت الأم أن زوجها منشغل عنها بملذاته، فيعتريها الخوف والقلق وعدم الاستقرار التي تتجلى في معاملتها لأولادها ولزوجها، ويتعكر جو الأسرة فيحرم الأطفال من حاجة على جانب كبير من الأهمية، ألا وهي الحاجة إلى الحب.
وقد تخرج عن اتزانها في معاملتها لهم فتتأرجح بين المبالغة في الحب والعطف، وبين الشدة والصرامة فتتزعزع حاجة نفسية من أهم الحاجات الضرورية لاطراد النمو، ومنع التوتر النفسي.
كل هذه الظروف قد تؤدي بدورها إلى فقد جزء كبير من طاقة الأبناء، وضياع مجهوداتهم في التوتر النفسي، والقلق، وضعف الانتباه، وعدم القدرة على التركيز مدة كافية لاكتساب الخبرات الضرورية للنمو في المدرسة والمنزل.
هذا وتعتبر الضغوط والمؤثرات الاجتماعية والثقافية المحيطة بالمرأة في مصر وكثير من بلدان الشرق، من العوامل المؤثرة في سعادة الأسرة، خصوصًا في الطبقة المتعلمة نوعًا حيث تشعر المرأة بحقوقها وواجباتها… إذ أنه نظرًا لحداثة عهد المرأة بالعلم بالقياس للرجل، وضيق مجالها الاجتماعي في كثير من الأحيان، قد تشعر الأم بالتوتر والشقاء إذا وجدت في معاملة زوجها لها ما يوحي بأنه يعتقد أنها أقل عقلًا أو ثقافة، لأن ذلك سيمنعه حتمًا من اتخاذها شريكة تسانده وقت الأزمات، وتسرّي عنه عناء العمل ومشاقه، بل يقتصر عملها على إعداد الطعام، وتربية الصغار، وتنظيف المسكن…
هذا فضلًا عن حرمان الأسرة كلها من التربية العقلية الحقة ومن (الدردشة) المثقفة اللازمة لتدريب الصغار على التفكير العلمي والتبصر في الأمور، وعدم التسرع في الأحكام، وآداب المعاملة، وغيرها من عوامل التثقيف التي يجب أن تضطلع بها الأسرة.
نمو المسئولية
ليس بمقدر الآباء إفادة أبنائهم إفادة أعظم من تحميلهم أقصى مسئوليات تحتملها كواهلهم. فإن ثمرة نمو المسئولية عندهم –حين يكبرون- أن يقوموا بكل وجوه نشاطهم وأنواع مسئولياتهم بحكم العادة التي لا تكلفهم جهدًا نفسيًا خاصًا، سواء كانوا رجال أعمال، أو رياضة، أو مؤلفين، ومخترعين، أو كانوا أزواجًا وزوجات.
(كاترين كوكس مايلز)
اختلاف المشارب والمزاج
أما إذا اختلف الأبوان في المشارب والمزاج والأهواء فهنا الخطر الأكبر، إذ يكون هذا الخلاف سببًا في شقاء الأم والأب معًا، وانقسام الأسرة على نفسها، وبعد الشقة بين أفرادها بعضهم وبعض، وكثيرًا ما يؤدي هذا إلى اختلاف الأبوين في معاملة أبنائهما. فإذا نهى الأب ابنه عن عمل لا يعجبه، شجعته الأم على الاستمرار في غيبة أبيه! وإذا طلبت الأم من ابنتها عملًا، عارض الأب في قيامها به وهكذا…
وقد يبلغ بهما الأمر إلى حد التنازع على نوع التربية التي ينشدانها لأبنائهما، ونوع التعليم الذي يهدفان إليه، مما يسبب قلق الأبناء وحيرتهم بين الأبوين، واضطراب تفكيرهم وتشتتهم النفسي.
وتحضرني في هذه المناسبة قصة أسرة كان ربها رجلًا من رجال العلم المشهود لهم بالذكاء وسعة الاطلاع… تزوج وهو صغير السن بفتاة ريفية، فلما شب وأتم تعليمه وجد أنها لا تتفق معه في المزاج وطريقة التفكير، فبعدت الشقة بينهما تدريجيًا حتى أصبح يرى فيها مثالًا للريفية الساذجة التي بلغت بها تفاهة التفكير درجة البلاهة، فكان يعارضها في كل ما تقول، ويفرض عليها كل ما تفعل أمام أبنائه.. وكان يهرب من المنزل طول النهار وجزءًا كبيرًا من الليل فكان ذلك سببًا في شقائهما معًا!
فارق السن
كذلك يعتبر الفارق الكبير بين الأم والأب في السن لدرجة قد تصل في الأب إلى أضعاف عمر الأم من الأسباب التي تؤثر على سعادة الأم. فكلنا يعلم أنه يحدث لأسباب –قد تكون اقتصادية أو اجتماعية- أن تتزوج فتاة في السابعة عشرة من عمرها برجل في العقد السابع من عمره. ففي مثل هذا الزواج لا يلبث كل منهما أن يتبين أنه لا يستطيع أن ينعم بصحبة الآخر… فهي غير قادرة على أن تتكيف للوسط الذي أعده لها لاختلافهما في وجهة النظر للحياة، وفي طرق التفكير، وفي الأمزجة، والنزعات ولا يلبث هو أن يكتشف فيها طفلة غريرة قليلة الخبرة بالحياة!
ومن أسباب شقاء الأسرة أيضًا أن تعمد الأسرة على إرغام الفتاة على الزواج بشاب لا تريده، إما عملًا بالمبدأ الريفي (زواج البنت سترة)، وإما لأنه قريب أو صديق للعائلة.. وهذا النوع من الزواج وإن نجح في بعض الأحيان إلا أنه كثيرًا ما يكون سببًا في شقاء أحد الزوجين أو كليهما، فيسود جو التوتر والقلق الأسرة بأسرها.
مثل هذه الأسباب وغيرها، كثيرًا ما تكون سببًا في شعور الأم بنوع من الإحباط والتعاسة التي تؤدي –على أحسن الفروض- إلى إيجاد نوع من التوتر وعدم الاستقرار في جو الأسرة –وعلى أسوأ الفروض- إلى تفككها وانحلالها، فتورد للمجتمع أبناء قليلي الإنتاج، ميالين للهدم لا للبناء!.. وقد أثبتت الأبحاث التي أجريت على أسباب انحراف الأحداث، أن تفكك الأسرة وانحلالها من العوامل القوية المؤدية للانحراف!
كيف نوفر السعادة للأم؟
وهنا نتساءل: إذا كانت الأم هي المسئول الأول عن سعادة أفراد الأسرة جميعهم، وسلامة صحتهم النفسية، فكيف السبيل إلى تحقيق سعادتها وتوفير راحتها واستقرارها النفسي؟
الجواب عن هذا السؤال ليس بالسهل، خصوصًا في المجتمعات الشرقية، حيث تتم معظم الزيجات بمعرفة رب الأسرة، وحيث تتدخل التقاليد والعادات والعرف –وخاصة في المجتمعات الريفية والطبقات العاملة- في اختيار الزوج.. ومع ذلك فيمكننا أن نخطو خطوات واسعة لتحقيق غايتنا إذا أخذ المجتمع على عاتقه التخلص من بعض العادات والتقاليد التي تضر بصالح الأسرة، وتعرف نموها الطبيعي، وذلك باتباع ما يأتي:
- إرشاد الآباء إلى أن مهمة اختيار الشاب لشريكته في الحياة وبالعكس، هي أولًا وقبل كل شيء مهمة الشباب، وليست مهمة الآباء وأن كل ما يطلب من الآباء هو التوجيه العام، حتى يفيد الخلف من خبرة السلف في هذه الناحية.
أما أن يحاول الآباء تزويج أبنائهم وفق معاييرهم الخاصة وفرضهم على بناتهم زيجات لا ترضينها، بحكم التقاليد أو لظروف أخرى لا تأخذ بعين الاعتبار ميولهن وحاجاتهن، فهذا ما ينهى عنه علم النفس؛ وهو المسئول عن شقاء كثير من الأسر وتفككها، وحيرة الأبناء بين الأبوين.
- العمل على مساعدة الشباب من الجنسين على التعرف بعضهم على بعض في محيط الأسرة، وعن طريق الاختلاط في دور العلم، وأندية الشباب وساحات التربية الرياضية، والنشاط الاجتماعي الموجه، وذلك حتى يتم الاختلاط في جو طبيعي، وتحت إشراف القادة من المهتمين برعاية الشباب… وإني أعتقد أن الاختلاط في محيط الأسرة أجدى أنواع الاختلاط… فالأسرة وحدة المجتمع، ولو نجحت الأسرة في التخلص من التقاليد التي تعرقل تصرف كل من الجنسين على الجنس الآخر لنجح المجتمع كله في حل مشكلات الاختلاط، أما إذا تخلت الأسرة عن هذا الموضوع المهم، مع إباحة الاختلاط في المعاهد والجامعات، فهناك احتمال لحدوث بعض المضار، إذ لن تكون للآباء الفرصة في مساعدة أبنائهم وبناتهم على اختيار الزملاء والأصدقاء، فضلًا عن التجاء الفتاة مثلًا إلى الاختلاط بزملائها خارج نطاق الأسرة حتى ولو نهتها أسرتها عن ذلك.
- العمل على تدريب الأبناء وتربيتهم على فهم الحياة العائلية، ومسئولياتها وذلك بإعداد برامج تعليمية داخل المدارس والمعاهد وفي المؤسسات والهيئات، تعني بدراسة طبيعية الأسرة وعوامل ارتباطها وتفككها، ونوع العلاقات السائدة بين أفرادها، ووظيفة كل من الأب والابن، وإعداد برامج للإرشاد (Counselling) لتوجيه الآباء، وإرشاد الأبناء المقبلين على الزواج.. وقد تنبهت الأمم المتحضرة إلى أهمية هذه التربية، فأعدت لها برامج ضخمة، ورصدت لها ملايين الجنيهات، ونذكر الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال.
إلى المقدمين على الزواج
أما نصيحتي لمن يريد من الشباب الإقدام على الزواج فهي:
ألا يقدم الشاب أو الفتاة على الزواج إلا إذا وصل إلى درجة من النضج العقلي والانفعالي تمكنه من تقدير المسئولية التي ستلي على عاتقه.
وهنا يأتي دور الآباء.. فعليهم توجيه أبنائهم في هذه الناحية توجيهًا مبنيًا على التفاهم والود، خاليًا من الإجبار والتعنت، فيرشدونهم إلى أن الإقدام على الزواج يجب أن يكون هدفه تكوين أسرة سعيدة متحابة، وأن للأسرة على الأبوين حقوقًا منها المحبة، وإنكار الذات، والتضحية، وأن هدف الزواج هو اختيار شريك الحياة، لا رفيق أسابيع أو سنوات!
وعلى الشباب المقدم على الزواج أن يعلم أن الزواج يجب أن يبنى على التفاهم، والحب والوفاء بين الزوجين، وهذا لا يتم إلا إذا بني الاختيار على تقدير كل جنس لأفراد الجنس الآخر، وإلا إذا تأكد الطرفان بقدر الإمكان، من اتفاقهما في المزاج، والمثل، ونظرتهما إلى مشاكل الحياة، ويتم هذا على وجه مرض إذا أتيح اختلاط الجنسين في ظروف طبيعية في محيط الأسرة، ودور العلم، والمؤسسات الاجتماعية.
أما حيث يتعذر على الفتى والفتاة الاختلاط بسبب عادات أسرتيهما وتقاليدهما، فلا أقل من أن يعمل كل منهما على اختيار شريك حياته من وسط يتفق في مستواه وظروفه الاجتماعية والاقتصادية مع وسطه… إذ ليس من الحكمة مثلًا أن يلجأ شاب متعلم من أسرة متواضعة إلى خطبة فتاة من طبقة ومستوى أعلى كثيرًا من مستواه، معتمدًا على ثقافته ومؤهلاته العلمية، أو على مركزه الاجتماعي… ذلك لأن مثل هذه الفتاة تعودت أن تعيش في ظروف اجتماعية غير ظروفه، فلن تقنع بما يقدمه لها… فمعاييرها الاجتماعية، والتقليدية مخالفة لمعاييره وعرفه ونظرته إلى الحياة، وكثيرًا ما ينتهي هذا الزواج إلى الفشل، أو على الأقل إلى شعور الزوج بنوع من النقص الذي قد يحاول تعويضه بطريق سليم، أو بطريق مهدد لسعادة الأسرة بأسرها!
وأخيرًا أنصح للفتى والفتاة بأن يبتعدا عن زواج المصلحة بقدر الإمكان، وأن يتجنبا الأسباب المادية أو الاقتصادية، لأنها أسباب خارجية وعرفية، وأن يأخذا في الاعتبار النواحي النفسية الضرورية لسعادة الأسرة ونجاحها.
-نُشر أولًا بموقع حياتك.
لا تعليق