للفنان المثّال جمال السجيني
رأسمال الفنان مشاعره المرهفة، وعاطفته الفياضة، وذهنه المتقد الذي يستوعب صور الحياة، مادية ومعنوية، ويصوغها لوحة أو تمثالا… وهنا يحدثنا المثّال الفنان الأستاذ جمال السجيني عن المشاعر التي تأثر بها طفلًا، وكان لها أكبر الأثر في تكوين شخصيته وأهدافه
نشأت في عائلة، ككثير من العائلات المصرية، دهمها الفقر بعد نعمة وسعة؛ وفتحت عيني على العالم بين دروب باب الشعرية وأزقتها… وكانت لي خالة أيسر منا حالًا تقطن في حي الحسين، فكنت أقضي معظم أوقاتي عندها؛ وبذلك كانت حياتي في تلك الحقبة من الزمن موزعة بين باب الشعرية وحي الحسين…
وانطبعت في ذاكرتي صور المساجد، والموالد، والمصاطب، والعادات الشعبية، وما زالت منطبعة حتى الآن… بل ما زلت أستنشق هواء مرتع الصبا وأنا في مسكني بالزمالك!… وعندما أجلس بجوار (البيك آب) لأستمع إلى موسيقى (الروك آند رول)، تتمثل لي نغمات السيد درويش وألحانه المنبعثة من صميم شعبيتنا، وهو يقول: (يا بو الكشاكش كان جرى لك إيه يا ترى)، (والحلوة دي قامت تعجن في الفجرية).
وفي تلك الفترة المبكرة من حياتي كنت أملأ جدران البيت القديم بالرسوم… وكانت الورقة والقلم والطباشير هي أفضل ألعابي كطفل… وإذا كانت النظريات الحديثة تقول إنه لا بد للطفل من الجو الصالح لكي تنمو مواهبه، فإني لم أجد هذا الجو قط، بل كان كل ما يحيط بي سلبيًا بالمعنى الصحيح… ولكن إرادتي كانت هي (الدينامو) الوحيد الذي كان يدفعني دفعًا إلى المثابرة على تنميتي. فلا أذكر أني انقطعت يومًا واحدًا عن دراستي الفنية… وكان يحق لي أن أفعل!… فيعلم الله أن أيامًا طويلة، وأحيانا أسابيع، كانت تمضي ولا أجد في يدي ثمن تذكرة الترام!… ولكن لا بأس؛ فقد أحببت رياضة السير على الأقدام، وكيف لا، وقد كانت وسيلتي لغاية كبرى ألا وهي الفن!..
كانت حياة شاقة، وكان كفاحًا مريرًا ملأني شعورًا فياضًا نحو الطبقة الكادحة التي نشأت فيها ومنها… شعورًا بالمآسي التي يمرون بها والتي مررت بها، وعشت فيها حين كانت شخصيتي الفنية لم تتبلور بعد، ولم يتضح لي الهدف.
ورويدا تبلورت شخصيتي، واتضحت أهدافي: الدعوة من أجل السلام… والعمل على توفير الخبز للكادحين… وما أعظم علاقتي بهؤلاء الكادحين! وارتبط فني بحياتي وحياة الناس… وبالتالي ارتبط فني بالأهداف الوطنية التي قامت من أجلها ثورتنا… وجعلت من فني داعية للقومية العربية، وسياسة الحياد، والأفكار التحررية… وكانت تجربة لمعرفة مدى تجاوب أفكارنا بالأفكار العالمية… فكان معرض الصين الشعبية، حيث اقتنت حكومة الصين بعض أعمالي لتوضع في القصر الكبير ببكين… وكان أيضًا المعرض الدولي بموسكو هذا العام حيث نالت أعمالي الميدالية الذهبية، فكانت مصر من الدول القلائل التي تفور بهذا الشرف الفني العظيم…
وما زالت عقيدتي تتأكد يومًا بعد يوم، وأشعر بالسعادة التي يشعر بها الفنان إذا ما ارتبطت أعماله بالحياة العميقة، وكان من ورائها داعيًا للخير والسلام.
-نُشر أولًا بموقع حياتك.
لا تعليق