المسرحية الفائزة بجائزة (بوليتزد)

بقلم الكاتب المسرحي الشهير جورج كيلي

عرض وتلخيص الأستاذ أمين دوس

طائفة كبيرة من المشكلات الزوجية يمكن تعقب أسبابها إلى أغوار طفولة أحد الزوجين أو كليهما… وهذه قصة زوجة تلاعبت هذه العوامل الطفلية الراسخة بزواجها… فكيف انتهى؟ ومن كان الضحية؟

هارييت كريج امرأة على جانب غير يسير من الحسن والجمال، ولكنها امرأة أنانية محبة لذاتها، تجنح دائمًا إلى فرض سيطرتها وصولتها على كل من يتصل بها، أو يمت إليها بسبب؛ وتميل إلى استغلال الناس وتسخيرهم في قضاء مآربها ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا.. أما بيتها الأنيق البديع، فإنه في نظرها بمثابة معبد هي فيه المعبود الذي تقدم فيه إليها فروض الطاعة والولاء، ومراسم الخضوع والخشوع.

وإن المرء ليستطيع أن يستشف من حركات هارييت وسكناتها، ومن كل بادرة من بوادرها، أنها مسيطرة على زوجها (ولتر) سيطرة تامة، وأنها باسطة سطوتها أيضًا على ابنة عمها (كلير) التي تعيش في كنفها.. كما يبدو في جلاء أن (ولتر) و(كلير) واقعان تحت سيطرة هارييت، مستسلمان لها استسلاما أعمى من حيث لا يشعران ولا يفطنان!.

أما ولتر فرجل دمث الخلق رقيق الطبع خفيف الروح، يحب زوجته حبًا يكاد يبلغ مبلغ العشق والافتنان. ولكنه مع ذلك زوج محرج في بيته أشد الحرج؛ بل يوشك أن يشعر بالحرج ملاحقًا له في كل ركن من أركانه.. حتى القعود على كرسيه الخاص يقتضيه الحيطة والحذر خشية أن تنحرف حشاياه عن أوضاعها المرسومة، أو تتثنى أغطيته المكوية، فتثور ثائرة زوجته، وتغلظ له في التوبيخ والتقريع!

غير أن هارييت عرفت كيف تروض زوجها على الطوع والإذعان. وقد تم لها ذلك في براعة وحزم وحنكة؛ بل في دهاء وخبث؛ حتى أن ولتر نفسه لم يكد يحس أن استخذاءه هذا، يحز في نفسه، ويفعم قلبه غلا وحقدًا ونقمة عليها!.

* * *

وإذا كان هذا حال رب البيت، فإن حال (مسز هارولد) مدبرة البيت، و(لوتي) الخادمة، كان ولا شك أدهى!.. لقد كانتا تؤديان أعمالهما في جو تسوده الغطرسة والإرهاب والعنت؛ فيشيع هذا في قلبيهما الفزع والرهبة والتوجس؛ وفي أعصابهما توترًا شديدًا. فالويل كل الويل إذا تزحزح وعاء الزهور عن موضعه المرسوم قيد أنملة! أما إذا أفلت فنجان أو قدح من يد (لوتي) المسكينة التي تصدعت أعصابها وتضعضع كيانها من فرط ما تلقى من غطرسة سيدتها واضطهادها، فليس جزاؤها إلا التعويض عن الثمن أو عقوبة الطرد!.

* * *

وتزمع هارييت حلة لزيارة أمها في إحدى مصحات الأمراض العصبية حيث كانت تستشفي، فتصطحب معها كلير ابنة عمها. ولكنها قبل أن تزايل الدار، تصدر لمسز هارولد مدبرة البيت ولخادمتها لوتي، أوامر صارمة وتعليمات مشددة تهدف كلها، فيما يبدو من فحواها، إلى أحكام الرقابة على زوجها، وتضييق الخناق عليه وعلى تصرفاته أثناء غيبتها!.

وها نحن أولاء نرى هارييت جالسة في مصحة الأمراض العصبية تتبسط في الحديث مع الطبيب الذي يتولى علاج أمها.. وإذا حديثها يكشف لنا فجأة وعلى غير انتظار، عن خفية العقدة النفسية التي تعانيها، ويحسر لنا القناع عن سر مسلكها حيال زوجها وحيال كل من يلوذ بها!. فهي لا تني تؤكد للطبيب، في إصرار عنيد وتشبث شديد، أن ما تكابده أمها من انهيار عصبي، يرجع إلى هجران زوجها (أب هارييت) لها قبل سنين عديدة خلت!. وهنا يبين لعين الطبيب اليقظة اللماحة، أن هذا الانطباع القوي الراسخ المستحوذ على ذهن محدثته عن أمها، هو هو الذي أورثها تلك العلة النفسية التي تنغص عليها حياتها الزوجية، وتفسد هناءها العائلي.

* * *

ونعود إلى ولتر، بعد أن رحلت عنه زوجته وخلا له الجو لأول مرة بعد زواجه… لقد طاب نفسًا، وقر عينا، وراح يستمتع بلذة الحرية وبهجة الانطلاق، ونعمة الفكاك من ذلك الاستبعاد الذي رسف في أغلاله مذ تزوج هارييت!.. وفي غمرة هذه السعادة السابغة والفرحة الطارئة، يسخو على خدم الدار فيمنحهم العطلات جزافًا بغير حساب، ويجزل لهم العطاء، ويرخي لهم العنان!.. ثم تهفو نفسه إلى مجالس الأنس والسمر التي طواها الزواج إلى غير رجعة، فيدعو بعض أصفيائه إلى مآدب حافلة يقيمها لهم في داره، أو يقضي معهم ليالي ممتعة ساهرة. ومسلك ولتر في هذا كله، مسلك بريء لا مغمز فيه ولا مطعن. بل هو طبيعي لا غرابة فيه. فما أشبه ولتر وهو يستمتع بحريته المسلوبة ويلتذ بممارسة حقوقه المهضومة في بيته، كرجل ورب دار تنبغي له الكرامة والسلطان والكلمة المسموعة، بعد أن انزاحت عن كاهله أثقال التحكم والجبروت- ما أشبهه بتلميذ صغير أمسى وأصبح، فإذا هو على حين فجأة يجد نفسه متحللا من أعباء واجباته المدرسية، ومما عليه لأساتذته من قيود وتبعات وفروض!.

* * *

وتحاول هارييت الاتصال بتليفون الدار فلا يجيب نداءها مجيب.. وهنا تساورها في وفاء زوجها الظنون وتذهب بها الريب كل مذهب!.. وتشد رحالها عائدة وفي صحبتها كلير، فلا تكاد قدمها تطأ عتبة البيت حتى تقف واجمة مشدوهة.. أن الغرف التي بذلت في سبيل تجميلها وتزيينها ما بذلت، وتأنقت في تنسيق أثاثها ما شاء لها التأنق، قد عبثت بها يد الفوضى فتبعثرت قطع الأثاث هنا وهناك، وتجردت الأرائك والمقاعد من وسائدها وأغطيتها؛ وتناثرت في كل ركن من أركان البهو وغرفة الطعام، فضلات طعام وخمر مختلفة، ولا شك أن مأدبة عشاء أقيمت في الليلة البارحة!.

أما كريج فما برح في مخدعه يغط في نومه وقد ارتفع الضحى وأوشك النهار أن ينتصف… وتخامرها ريبة من أمر زوجها ظنون وهواجس فتسعى إلى مخدعه.. ويهب ولتر من نومه فتبدو على سيماه آيات الدهشة ويعرب لها عن عجبه لمقدمها المفاجئ، ويمعن في العجب حتى يوشك عجبه أن ينقلب احتجاجًا مستترًا، أو امتعاضًا مكظومًا، أو مزاجًا من هذا وذاك!.

أما هي فتخرج عن سكينتها المتكلفة رويدا.. فما تزال تغمزه بالتلميحات اللاذعة، وتخزه بالشكوك الجارحة، وتغلظ في لومه وتأنيبه، حتى يضيق بها ويبرم، ثم يحنق ويسخط.. وتدرك هارييت أنها قد أسرفت في الغمز والوخز والملام، وأنها قد جاوزت في إيذاء جوادها الطيع حدود احتماله.. إذا ذاك يجنح إلى الملاينة والملاطفة، فتقترح عليه وليمة يدعوان إليها بعض الأصدقاء..

وولتر رجل سمح الخلق لين العريكة، فلا يلبث أن يسرى عنه، ويسكن إليها، ويستجيب لملاينتها، ويأخذ في إعداد قائمة بأسماء من يرى دعوتهم من الأصدقاء إلى الوليمة المقترحة.. وتتناول هارييت قائمته فما زالت تعمل فيها حذفًا وإبدلا ومحوا حتى تقصرها آخر الأمر على أسماء من تطمئن إلى ولائهم لها، ولا تخشى منهم فتنة على زوجها، وتستبعد منها أسماء الأخصاء من أصدقاء ولتر، وأصحابه الحميمين!.

وفي هذه الأثناء تقوم بين كلير وبين شاب من زملاء ولتر مودة ولا تبرح المودة تزكو على الأيام وتتبلور حتى تصر حبًا.. وتتابع هارييت نمو هذا الحب بين القلق، والتوجس، ويتبدى لها أنه موشك أن يؤتى ثماره بزواج حد قريب، فتشفق أن يفضي هذا الزواج إن قدر له أن يتم، إلى إفلات كلير من قبضة يدها، وانعتاقها من ربقة عبوديتها.. وهارييت لا تطيق الحياة دون سيطرة تفرضها على أي كان! فلتعمل إذن جاهدة على إفساد هذا الحب، ولتسع بينهما بالوقيعة إن استطاعت إلى ذلك سبيلًا!.

* * *

ويظهر في هذه الآونة على مسرح الحوادث وجه جديد، هو وجه زوجة رئيس المؤسسة التي يعمل فيها ولتر.. كانت محيطة بوقائع هذه الأحداث، وتفاصيل الموقف برمته، عالمة بما جبلت عليه هارييت من عنو وطغيان.. فتعمل من وراء ستار، على إبعاد ولتر عن هذا الجو الخانق الذي يعيش فيه، ولو فترة يسيرة من الزمن، وتوعز إلى زوجها بإيفاده إلى اليابان في مهمة خاصة من مهمات المؤسسة. فما إن تسمع هارييت بنبأ هذه الرحلة حتى ينتابها هلع شديد لا لشيء إلا لأنها تخشى أن تحرر ولتر من بين براثنها مرة، ونهل من رحيق الحرية نهلة، فأغلب الظن أنه لن يعود إليها أبدًا.

ولا ترى لها مخرجًا من هذه الورطة الداهمة إلا اصطناع الحيلة. فتدأب على الدس لولتر عند رئيسه، وتحاول جاهدة أن تشككه في كفايته وفي قدرته على الاضطلاع بالمهمة التي ينوى ندبه لها.. وتفلح آخر الأمر في أن تزعزع ثقته في ولتر فيأمر بإعفائه من الرحلة أخذًا بأسباب الحيطة والحذر!.

ويتناهى إلى ولتر نبأ هذا الإعفاء فيقع عليه وقع الصاعقة! ويجرى بينه وبين زوجة الرئيس حديث مستفيض، يشكو فيه ما لحقه من ظلم فادح بل إهانة صارخة بسبب عدول زوجها عن إيفاده إلى اليابان حيث كان يرجو أن تتهيأ له فرصة مواتية يبرز فيها جدارته واستحقاقه للترقية في مناصب المؤسسة.

ويلمح ولتر أن زوجة الرئيس تعلم من أمر هذا العدول الشيء الكثير، وأنها تحاول جاهدة أن تخفي عنه ما تعلم. فلا يزال يدارجها الحديث، ويتسقط منها فلتات اللسان، فلا يهوله إلا أن يسفر له من ثنايا هذا الحديث وجه الحقيقة المنكرة، ويبين له، بما لا يدع عنده مجالًا لشك، أن زوجته هي التي كادت له عند رئيسه فأدخلت في روعه أنه أعجز من أن ينهض بالمهمة التي ينوي أن ينيطها به!.

ويثور ولتر لكرامته المهدورة، وسمعته المثلومة، ويشق عليه أن تطعنه زوجته في ظهره هذه الطعنة التي حطمت آماله، وأزرت به عند زملائه، فينطلق إليها من توّه والغيظ ينشره ويطويه، وقد حزم أمره على أن يحسم ما بينه وبين هارييت بضربة قاضية يكون فيها فصل الخطاب!.

وترى هارييت أن العاصفة تهب عليها هوجاء عاتية، فتحاول أن تدرأها بالكذب، والتمويه واختلاق الأضاليل فلا يغنيها هذا شيئًا، بل لا يزيدها إلا تورطا وتعثرا وانغماسًا في حمأة ذنبها.. وينكشف الغبار عن تلك الملحمة الحامية، فإذا ولتر يحس كأن غشاوة تنقشع عن عينيه، فيرى زوجته في صورتها الحقيقية: امرأة خبيثة الطوية، لئيمة الطبع.. امرأة أثرة، صلفة، متغطرسة، مستبدة!.

* * *

وبينا هذا يجرى بين الزوجين، تسري في الدار سارية من السخط والتذمر.. فهذه مسز هارولد مدبرة البيت ترحل عنه زهدا في خدمة سيدتها الشكسة المناقرة، بعد أن ذاقت المر من عنتها ومناكدتها. وهذه (كلير) يترامى إليها أن هارييت تسعى بالوقيعة بينها وبين حبيبها وتعلم بالدور الخسيس الذي تلعبه في الخفاء لتحول دون زواجهما، فتزهد هي الأخرى في عشرتها، وتفارقها ضنا بالحبيب وإيثارا للسلامة…

ويشتد التوتر بين الزوجين يومًا بعد يوم، ويتفاقم الشقاق، ويزداد ولتر نقمة على زوجته، وبرما بطبعها، ومقتا لمسلكها حتى لا يبقى في قوس صبره منزع، فيوطد نفسه على مجاهرتها بالتمرد والعصيان، وإعلانها بثورة جامحة لا تبقي ولا تذر…

وها هي ذي الأحداث تنذر بأن الزوجين يسيران بخطى حثيثة إلى مفترق الطريق.. ونشهد مواقف عجيبة وإن لم تخل أحيانًا من متعة أو طرافة.. فولتر الرجل المسالم الوادع، السلس القياد، قد نفخ فيه نجاح ثورته على الطغيان روحا جديدة وخلع عليه شخصية عزيزة قوية. فإذا هو يطرح عنه أغلال الخنوع والاستخذاء، بل يتمادى فيخلع إزار التحفظ والاحتشام والإسراف في الاستحياء…

لم يعد يعترف بالقيود المضروبة على حركاته وسكناته في منزله. وإنه ليجلس على المقاعد والأرائك دون أن يعبأ بوسائدها انحرفت عن أوضاعها أو لم تنحرف، ولا بأغطيتها انزلقت عنها أو لم تنزلق! تغضنت أو لم تتغضن! بل نراه يعبث بكل ما في البيت من أثاث ويجترئ على كل ما كانت تعتبره هارييت (مقدسات) لا يجسر أحد على المساس بها!.

ويشتط في غلوائه وفي مكايداته إلى أبعد الحدود، فلا يبالي إذا جلس أن يتمطى في مقعده بملء طوله، أو يرسل قدميه في الهواء لا يعنيه اتجه نعل حذائه إلى جدار، أو إلى وجه هارييت..!

وفي غضون تلك الفترة المفعمة بالتوتر والتوثب، يدور بين الزوجين من آن إلى آن، حوار يهدأ حينا ويعنف أحيانًا.. وتحاول هي أن ترده من طرف خفي إلى الماضي غير البعيد ليعود بذاكرته إلى ما كانت عليه حاله قبل أن تتزوجه، عساه إذا قارن بين أمسه وبين ما بات يتقلب فيه من رغد وترف، أن يفيء إلى سالف هدوئه واستسلامه… وتسأله في كثير من الأحيان أسئلة لا تخلوا من تعيير: (هلا تذكر من كنت يا ولتر قبل أن أتزوجك؟).

فيجيبها ولتر في لهجة تقطر مرارة ومضضًا: (نعم. نعم… أذكر أني كنت إذ ذاك رجلا بين الرجال!)..

وهنا يطفح الكيل، وتبلغ روحه الحلقوم، فيدير لها ظهره رافع الرأس شامخ الأنف، فتعلم أنها القطيعة الأبدية، والفرقة التي ليس بعدها من لقيا…

ويمضي ولتر إلى سبيله لا يلوى على شيء، نابذا هارييت وثراءها العريض، وقصرها الباذخ، لتكابد مضاضة الوحدة وتباريح الوحشة بعد أن انفض من حولها… كل من كانوا يدينون لها يومًا بالود والإخلاص والولاء!.

-نُشر أولًا بموقع حياتك.

 

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *