قصة مصرية

للسيدة صوفي عبد الله

– ألم يأن الأوان بعد لأن تخلعي هذه الملابس القاتمة التي أحالت الحياة سوادًا، وأن تعودي سيرتك الأولى؟…

– وهل في العمر بقية؟…. لقد استنفدت الكثير، ولم يبق إلا القليل… دع الملابس الزاهية لمن خلقن لها… أما أنا فقد كال علي الدهر كيلًا وافيًا، فحطمني وأمات كل ذرة حية في كياني… فأصبحت هيكلًا متداعيًا ينتظر النهاية بين آن وآخر، ولا يرجى منه نفع، فانفض عنك هذه الأفكار يا فكري ولا تجعلها تراودك، فلن تكون لي سعادة في هذا العالم الذي نبذني وأشقاني..

لم يكن في حياة سهام ما ينغصها، فهي زوجة موفقة في حياتها، وأم لفتاة في السابعة عشرة، وفتي يافع في الخامسة عشرة.

ومضت الحياة رخية هنية بهذه العائلة السعيدة المترابطة، إلى أن تزوجت الابنة وانتقلت إلى منزل الزوجية. وفي السنة نفسها نجح الفتى في شهادة التوجيهية، ولما كان والده قد وعده بشراء دراجة بخارية إن هو نجح، فقد بر بوعده…

وككل من في سنه، ازدهاه النجاح، وأطربه أن يحصل على الدراجة بعد طول انتظار، حتى إذا أصبحت ملك يمينه، جعل يطوي بها الشوارع طولًا وعرضًا، ولا يلوذ بالمنزل إلا في أوقات الطعام…

وهل ينتظر ممن في مثل سنه أن يفعل غير ذلك؟!

ولكنه لم يتمتع بها أكثر من يومين اثنين…

وفي عشية اليوم الثالث، أتوا به محمولًا، والدراجة متصدعة!..

ولم يهنأ لسهام عيش، بعد هذه الصدمة المروعة التي هدت كيانها، وأفقدتها كل إيمان بالحياة… وبالله!

وعاشت لآلامها وأحزانها تجترها اجترارًا، وابتليت بالأمراض، ولم تكن تسمع عن محزنة، إلا وتكون أول المشاركات النادبات، تبكي وتلطم خديها حتى تقع مغشيًا عليها!…

ومر على هذه الحادثة ما يقرب من سبع سنوات، وما زالت سهام على حالها تلبس السواد، منطوية على نفسها، قابعة في دارها، تنتظر النهاية ولم يفلح زوجها، ولا ابنتها، ولا أي مخلوق في انتزاعها من براثن ذلك الحزن الذي فرضته على نفسها، ولفته حولها بإحكام، حتى أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياتها…

وفي مساء يوم، دخل عليها زوجها وفي يده طفل في الثانية عشرة، طويل نحيل، وسيم الوجه، وقال:

– هذا الطفل يا سهام ممن نكبوا في حرب بورسعيد وقد فقد أبويه، وهو الآن يتيم، ليس له سوى جدته التي حضرت معه. ولكنها الآن في المستشفى في النزع الأخير، وقد رأيت أن نتبناه، لعله يملأ علينا حياتنا…

وانتظر قليلًا ليرى مدى تأثير كلامه على سمعها… فرآها تتجهم، وتشحب، وتتقلص عضلات وجهها… ثم تسقط دموعها مدرارًا، وتقول وهي تنشج نشيجًا متقطعًا:

– اتركوني… لا أريد أن أرى أحدًا… ليس لي في الحياة مأرب… لقد تحطمت أعصابي وبليت عظامي… وقربت نهايتي!..

ولم يفه فكري بكلمة، بل اصطحب الصبي وخرج به إلى الفضاء، وجعلا يتنزهان زهاء ساعة، وهو يقص عليه شتى الأقاصيص، وسأله الطفل:

– ماذا بها يا سيدي؟…

لماذا تبكي هكذا…

– لقد فقدت، يا بني، فتى في مثل سنك منذ أكثر من سبع سنوات… ومنذ ذلك الوقت، وهي قابعة في الدار بهذا الشكل الذي وجدتها عليه، منعزلة عن العالم، تنتظر النهاية..

واتفقا فيما بينهما أن يكون لها الفتى نعم الابن، وأن يتغاضى عن كل ما يصدر منها، متفانيًا في إرضائها، وإدخال السرور على قلبها الكليم…

وحينما رجعا إلى البيت، كانت سهام قد أوت إلى فراشها…

ومرت الأيام بطيئة مملة، وسهام تزداد انطواء على نفسها، لا تفلح معها أفانين الاسترضاء التي يسترضيها بها الغلام… فلم يكن يتوانى عن القيام بكل مساعدة يراها في احتياج إليها، مبديًا شتى ضروب الطاعة والولاء متغاضيًا عن كل ما تبديه نحوه من تأفف وعدم مبالاة… إلى أن كان يوم أتي إليها زوجها متوجسًا، وبادرها بالقول:

– غدًا عيد ميلاد الصبي يا سهام… وقد تعود من ذويه بعض الحلوى وهدية بسيطة… فهل لنا أن نكرمه؟ تصنعين له أنت الفطيرة المعتادة، أو نشتريها جاهزة، وأقدم أنا له الدراجة التي عندنا لعلها تنفعه في الذهاب إلى المدرسة!…

فقفزت من مكانها كمن لدغتها عقرب، وصرخت في زوجها:

– أي دراجة يا رجل!… ماذا حدث لعقلك؟… هل أعطي دراجة ابني الذي لم يعش ليتمتع بها، لهذا الصبي وأقوم أيضًا لأصنع له فطيرة!؟… أي مهزلة، وأية مصيبة!.

ثم انثنت تبكي وتولول، وهي تنشج بكلمات متقطعة:

– ما عشت يا سهام بعد ابنك… وفلذة كبدك… لتشل يداك… قبل أن تصنعي فطيرة لأحد من بعده… ليت القبر الذي طواك… يطويني الآن يا بني… ويريحني من عذابي…

وتركها فكري تبكي وتولول، ووقف أمامها ساكنًا كالطود.. حتى إذا هدأت قليلًا، جلس بجانبها في هدوء، وأحاطها بذراعه وهمس:

– وبعد يا سهام؟.. ألم يحن الوقت لأن نتكلم في هدوء، وتتركي الانفعالات والأفكار الخيالية التي لا يرجى منها فائدة… ونحتكم للواقع؟… ماذا أفدت من كل ما فعلت طوال هذه السنين؟… هل عاد إليك ابنك؟… هل ذهبت أنت إليه؟… إن شيئًا من هذا لم يحدث…. بل الذي حدث. أنك ابتليت بالأمراض، وأحلت حياتك إلى جحيم أرضي… وأفنيت زهرة عمرك وشبابك، فيما لا طائل تحته… ولم ينقص كل هذا يومًا واحدًا مما كتب لك في لوح القدر من عمر… فهل لك يا سهام أن تحكمي عقلك قليلًا، وتسلمي مقاليدك لمن بيده الحل والعقد… وتتركي الأمور تجري في أعنتها؟!. فمن نحن حتى نعترض على حكمه؟… تعقلي وإلا أصابك بنكبات أقدح من هذه..

– أي نكبات، وأي مصائب؟ إن أي نكبة تهون أمام هذه.

– لا تقولي هذا الكلام؟.. اخرجي من القوقعة التي تغلقينها على نفسك، وارفعي عينيك وانظري إلى الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن وبيوتهن وأزواجهن، وأصبحن في العراء… انظري إلى هذا الغلام المسكين الذي فقد البيت والأهل، ولم يبق له على ظهر الدنيا من يعوله، أو يهتم بأمره… فهو شريد محروم، حتى نظرة عطف تضنين بها عليه.! تخيلي أن هذا الغلام ابنك، وهذا مصيره، فكيف تكون حاله؟… وأي شعور بالمذلة واليتم كان يعصف به؟… إن حزنك وانطواءك، قد أسدلا ستارًا كثيفًا بينك وبين العالم، فأصبحت منعزلة عنه، حريصة على ألا تهتمي بشيء سوى آلامك الذاتية، وأماتت أنانيتك كل شعور يربطك بالغير وبآلامهم…

وفي هذه اللحظة، دخل الغلام وبيده باقة من الزهر النضير قدمها إلى سهام وهو يقول مبتسمًا على استحياء:

– إنها هدية لك يا سيدتي، بمناسبة خروج الإنجليز والفرنسيين من بورسعيد… لقد أعيدت أرضنا إلينا، ولن أشعر بعد الآن بالتعاسة التي كانت تغمرني لفقدان أعز ما لي في الحياة، بل سيملؤني الاعتزاز والفرح حينما أشارك في بنائها من جديد، قوية، شامخة في وجه الأعداء…

وكأنما سحابة سوداء، كانت تحجب عنها المرئيات قد انقشعت عن عينيها، فظهرت لها شناعة. الجرم الذي ارتكبته في حق هذا الصغير اليتيم، ففاضه دموعها وهي تجذبه إليها تحتضنه وتقبله في كل موضع من وجهه، وكأنما رد إليها فتاها المفقود، في شخص هذا الصبي القابع بين أحضانها.

وكان اليوم التالي، يوم عيد ميلاد الصبي، يومًا حافلًا من أوله، ازدانت فيه المائدة بأطايب الطعام، ووضعت في وسطها فطيرة كبيرة بها اثنتا عشرة شمعة وكانت الهدية الفاخرة التي أتحفته بها عائلته الجديدة، هي الدراجة البخارية، وقد أصلح ما بها من عطب، فعادت جديدة كأن لم يكن بها شيء…

وما إن رأى الغلام الدراجة، حتى نسي كل ما حوله، نسى الفطيرة الفاخرة… والمأكولات الشهية… وهجم على سهام يختطف منها قبلة عاجلة، تعبر عن مدى امتنانه، ثم انقض على الدراجة، يريد أن يعتليها، فحملها فكري إلى الخارج ليعلمه ركوبها…

ووقفت سهام خلف زجاج النافذة، تنظر بعينين غشتهما الدموع إلى الغلام وهو يتلقى أول درس في الركوب بوجه يطفح بشرًا… فكأنما نبتت أوراق جديدة خضراء في عود يابس…

–  نُشر أولًا بموقع حياتك.

 

 

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *