﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا القُرآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾
[الأنعام: ١٩].
﴿قُل إِنَّما أُنذِرُكُم بِالوَحيِ﴾
[الأنبياء: ٤٥].
(1)
إن طولَ النظر في هذا الوحي، يقف بالناظر على الفرق الهائل بين البيان القرآني وغيرِه من ألوان البيان البشري، ومن طالَعَ أجناسَ الإبداع الأدبي في الحضارات الإنسانية كلها، ثم عاد فطالع القرآنَ الكريم، فإنه وإن لم يلحظ المباينة ويشهد بالمفاضلة لصالح القرآن= فسيشهد على الأقل بأن القرآن جنسٌ مختلف لا يشبه أجناس الكلام الإنساني، وليس على نمطها، فإن رَزَقَه اللهُ علمًا بالبيان ومعرفةً بخصائص الإبداع في الكلام = فسيشهد بفضل البيان القرآني وأنه ليس كلامَ بشر.
وحُجيةُ القرآن الكريم ودلالته على المصدر الإلهي الذي أَرسل بهذا الوحي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم = هي الحجة التي أقيمت على كفار قريش، وقد أعانهم ،كي تُقام هذه الحجة عليهم، ما لهم من المعرفة بالبيان وخصائصه ومواطن التفاضل فيه، وهي حجة صالحة للإقامة على كل من أدام النظر في هذا الوحي.
عن ابن عباس رضي الله عنه: (أن ضمادًا، قدِم مكة وكان من أَزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة، يقولون: إن محمدًا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يَشفيه على يدي، قال، فلقيه، فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد”. قال: فقال: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء. فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر، قال: فقال: هاتِ يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه).
وفي هذا الحديث دلالة على أصلٍ عظيم من أصول الاستدلال، أن الحُجة تكون صحيحة في نفسها، ولكنها لا تقع منك موقعًا إلا بحسب ما معك من العلم والفقه؛ فيفوق الرجل من الاهتداء بالدليل بقدر نقص علمه وفقهه وعقله؛ لذلك اهتدى هذا الرجل بتلك الكلمات القلائل؛ لأجل ما معه من العلم الذي هداه لفرقِ ما بينها وبين كلام الناس، بينما لا يهتدي آخرون بما هو أظهر من الحجج؛ لأجل نقص علمهم وفقههم.
إن عدم اقتناعك ليس دليلًا على وهاء الحجة، بل أحيانًا كثيرة يكون لعدم استواء علمك وفقهك إلى الدرجة التي تؤهلك للبصر بالحجج!
فهذه الكلمات التي أسمعها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ضمادًا = نسمعها جميعًا، لكنها لا تقع منا نفس الموقع الذي وقعته من ضمّاد، حيث أبانت له هذه الكلمات أن صاحبَها لا يستمد معارفه من البشر، وإنما يوحي إليه الله.
وسببُ الفرق بيننا وبين الضماد: هو ما لديه من المعرفة بالكلام المتداول على ألسنة الناس، وهي المعرفة التي وَزن بها كلمات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الموازنة التي أنتجت أن هذا الرجل لا يُعلِّمه رجل، وإنما هو نبيٌ يُوحى إليه.
ومن هنا تَعلم: أن صلاحية القرآن لإقامة الحجة على المصدر الإلهي لهذه الرسالة وهذا الدين = هي صلاحيةٌ ثابتة في نفسها، تقوم بها الحجة على من كَفر، لأنها في الأساس إنما أُرسل بها نبي يخاطب من قد كَفر، ولكن انتفاعك بها مرتبط بما في نفسك من المعرفة والعلم، ولعله لأجل ذلك يَكثُرُ في ديننا الحثُّ على العلم والتعلم وعلى رفع المستويات المعرفية للناس.
إن التعلق بالوحي وملأَ النفس به، والصلةَ بالله جل جلاله عبوديةً، ومحبة، وافتقارًا، وقيامًا بالأمر والنهي، والصلاة، والذكر، والصلة، ونفع الخلق = كفيلةٌ بسدِّ حاجة الناس عن كل باب من أبواب اللهو ومُتع الفن والجمال، أو حتى التعلق بالخلق.
وإن النفس لا تطلبُ نعيمَها ولا سرورها ولا سعادتها من جهةٍ غير جهة الله إلا لنقصها عن مراتب الكمال، فطلبُ الناس لغذاءٍ روحي غير الوحي ومتاع العبودية = إنما يرجع لنقصِ نفوسهم وضعفها، والخللُ الموجود في قابلية المحل عندهم للانتفاع بالوحي؛ كالذي لا يعلم من أصناف الطعام إلا الأصناف الرديئة فهو ربما ينفُر ولا يقدر على الاستمتاع بالفاخر جدًا من الطعام.
فكثيرٌ من الناس لا يجد غذاءَ روحه في القرآن، وإنما يجده في الأناشيد أو حتى الغناء والموسيقى أو السماع أو سائر فنون الفن والجمال واللهو = لنقصِ نفسه، وقلة صبره على رعاية قلبه حتى يُنبِت فيه الوحيُ ثمرَه، ويَعظم ضررُ هذا حين يستغني بما يملأ روحه من تلك الأبواب، ويحسب هذا ملأ روح، والوحي ملأ روح، وهو هنا إنما يغفل عن فرق النفع والرواء بين البابين؛ فإنه ليس كل ما يملأ يكون نفعه واحدًا، بل ولا خُلوَّه من الفساد واحدًا؛ فإن الوحي مادة تملأ الروح كما لا يملأ غيرها، وتنفع كما لا ينفع غيرها، وتروي كما لا يروي غيرها، وتخلو من الضرر كما لا يخلو غيرها، وهذا فرقٌ ما بينها وبين غيرها، والفرق هاهنا لو تعلمون عظيم.
(2)
إن الديانات جميعًا تستعين على وصل الفجوة بين عالم الغيب وعالم الشهادة، بين إدراكات الناس ومعارفهم وبين ما تخبرهم هي به وتَعِدُهم إياه وتُحاججهم ليؤمنوا به= عن طريق الرموز مسموعة أو مرئية.
وتبذل الأديان المُحرَّفة -سواء كانت سماوية أو أرضية- جهدًا كبيرًا جدًا في صناعة منظومتها الرمزية، ويبدو لي هذا الجهد كأنما يتناسب أحيانًا مع درجة التحريف؛ فطمس بقايا الفطرة عسير.
- الشعر.
- القصة.
- الرواية.
- السينما.
- الإعلام.
- الأيقونات.
- الصور.
- التماثيل.
- اللوحات الفنية.
سيلٌ حاشد، عالم متكامل من الرموز تحيطك به المسيحية، مُوظِّفةً كل طاقاتها: بدءًا من الترانيم، وانتهاءً بمايكل أنجلو، مرورًا بترجمات الكتاب المقدس، وكوميديا دانتي.
- الشعر.
- القصة.
- الرواية.
- السينما.
- الإعلام.
- الأيقونات.
- الصور.
- التماثيل.
- اللوحات الفنية.
سيلٌ حاشد، عالم متكامل من الرموز تحيطك به الدولة القومية، بدءًا من بطاقة الهُوية، وانتهاءً بالتاريخ المصنوع، مرورًا بتحية العلم، والنشيد الوطني.
- الشعر.
- القصة.
- الرواية.
- السينما.
- الإعلام.
- الأيقونات.
- الصور.
- التماثيل.
- اللوحات الفنية.
سيلٌ حاشد، عالم متكامل من الرموز تحيطك به الليبرالية الرأسمالية، بدءًا من مكدونالد، وانتهاءً بالحُلم الديمقراطي، مرورًا بهوليوود.
أتى الإسلام وحوله حضارات وأديان تملك منظوماتها الرمزية، وكانت له هو منظومته الرمزية، منظومةٌ تعتمد بالدرجة الأساسية على الكلمة.
منظومةٌ سيظل مركزها، وعصبُ بلاغها، ونقطةُ تميزها= أنها لا تتوسل لوصل الفجوة بين الغيب والشهادة بالاتكاء على رموزٍ أرضية؛ إلا بقدرِ ما تتصل هذه الرموز بمنظومة الرموز الأساسية التي تؤهل هذا الدين ليكونَ خاتم الرسالات.
إن البناء الرمزي الذي يخاطب الإسلامُ به القلوبَ والعقولَ ليس رسمًا، ولا عمارة، ولا شعرًا، ولا أيقونات، ولا إيقاع موسيقي، إن البناء الرمزيَّ للإسلام قد أعرض عن هذا كله وخاطب الناس كلهم بأداة واحدة مركزية وهي: كلامُ الله المُوحَى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم…
هذا القرآن هو النبأ العظيم.
- وهو الدفق الرمزي الذي يُعرِض عنه الناس، ويريدون أن يُصنع لهم عِجْلٌ كعَجَاجِيل الأديان المحرفة الجائعة، التي تريد صيدَ الناس إلى شباكها البالية.
- هذا الدفق الرمزي القرآني هو الذي يعمل في النفوس عملَ السماء في الأرض الجدب.
- هذا الدفق الرمزي القرآني الذي يزهد الناس في الدعوة به؛ لأنهم -بتلبيسٍ من الشيطان خفيٍّ- يظنون أنه لا يعمل في النفوس إلا كما يعمل كلام الناس.
- إنه القرآن، ختامُ عَقدِ الوصل القائم بين السماء والأرض.
- رسالةُ الله ربِّ الناس لِتعملَ عملها في نفوس الناس، لا يقوم مقامها غيرها، ولا يزهد فيها وفي أثرها في قلوب الخلق إلا من لم يُعظِّم كلمة الله ويرعها حق رعايتها.
إن حظ الناس من كتاب ربهم قليل، وإن حظهم من الإيمان بعِظَم أثره في النفوس قليل، وإن أمةً آتاها الله الكتاب والحكمة ثم هي تُزيله عن موقع الصدارة في البيان والبلاغ والدرس والحجاج= لَأمةٌ مخذولة. |
لا تعليق