للدكتور أبو مدين الشافعي
الاختصاصي النفسي
نتحدث كثيرًا عن الأمراض النفسية، ونرجعها إلى أسباب عدة يحار الإنسان في حصرها… ولا شك أنه يهمنا جميعًا أن نجد وسيلة تسهل علينا الوقاية لكي نتفادى العلاج.. وبعد تفكير طويل في هذا الموضوع مبني على ملاحظات واقعية، وصلت إلى الاهتمام بمشكلة الحب عمومًا، وحب الطفل خصوصًا، وإلى الاعتقاد بأن نظام حياتنا الاجتماعي القائم على الأسرة يتطلب تنظيمًا نفسيًا للحب…
إننا نشاهد فوضى في المجال العاطفي بين الآباء والأطفال. فمن اندفاع غريزي، وتعلق جنوني عند البعض، إلى إهمال غريب وانتقام واضح عند البعض الآخر…
(إن اتجاه الشعب إلى الزواج المبكر، وإلى تكرار الزواج، ليس راجعًا إلى الرغبة الجنسية بقدر ما هو راجع إلى التعطش للحب).
وهناك آباء يحبون لدرجة العبادة في الصباح ويكرهون لدرجة الحقد في المساء!.. هذه حقائق نلمسها في كل بيت، وكلنا تعرضنا لها، وعانينا منها الشيء الكثير… فهل يمكننا في يوم من الأيام أن نقنع المشرفين على الجيل القادم بما يجب اتباعه في ميدان الحب. لنقلل من العقد والأمراض النفسية بدلًا من مواجهة تياراتها في المستقبل بشكل جارف مخيف؟!
إننا نفيد عامًا بعد عام من الاكتشافات المادية ومن تقدم العلوم الطبيعية، ونكسب مالًا ووقتًا ورفاهية، ولكن: هل اتجهنا إلى العلوم النفسية بالاهتمام نفسه لكي نهيّء أنفسنا لمسايرة هذا التطور في السرعة، والقوة والدقة؟… وأعتقد أننا مقبلون على تطورات خطيرة تتطلب قوة نفسية تمدنا بالثبات والهدوء، وإلا فسوف تتفاقم الإصابات النفسية بنسبة متزايدة.
إن اضطراب العلاقة العاطفية بين الأبوين والطفل يؤثر في الطفل أثرًا رئيسيًا.
فبرغم حب الأم الحقيقي للطفل، فإن أعصابها، وسلوكها وثوراتها وأفعالها الخارجية كلها تجعل الطفل يشك في هذا الحب…
فالأم التي لا تسيطر على أعصابها لا تستطيع مسايرة الطفل في نزواته، ورغبته الملحة في الحركة والسؤال، بل تضجر وتثور وتعبر عن السأم والتعب…
ولما كان الطفل عاجزًا عن فهم دقائق الأمور، فإنه يعتقد أن أمه لا تحبه، ويتكون في نفسه نوع من التعطش إلى الحب، ويندفع إلى البحث عن حب المرأة..
وأعتقد أن سلوك الشاب العاطفي وبحثه عن الحب لا يرجعان إلى العوامل الجسمية والجنسية وحدها، ولكن العامل النفسي القائم على نقص الحب يلعب دورًا كبيرًا… وبما أن الشاب قليل الخبرة بحقائق الحياة، يبدو له الواقع غامضًا، فإنه يتخبط تخبطًا خطيرًا قد ينتهي به إلى زواج مبكر، أو إلى أزمات نفسية، أو تعويضات متعبة… فالشاب الذي حرم الحب في طفولته يميل سريعًا إلى أي فتاة يقابلها، ويصادف أحيانًا الرفض وعدم التجاوب فيحزن، ويتألم، ويعالج نفسه بالخمر، والأكل والنوم، وتتعطل أعماله الدراسية وتخسر الأمة مواهبه…
إننا نحاول اليوم تشجيع المواهب على الظهور، ولا نعلم أنه من المستحيل إظهار الموهبة مع وجود العقد النفسية التي تشتت النشاط النفسي وتقتل الشخصية… وأعتقد أن أفضل السبل لإظهار المواهب هو حماية النفس من الأمراض والعقد والأزمات لتظهر المواهب وتتجلى بصفة طبيعية.
ومن الأسباب الأساسية للأمراض النفسية الاضطرابات العاطفية التي يصادفها الطفل في أيامه الأولى. فالطفل يحتاج إلى العطف الذي يشعره بالطمأنينة. فهو لضعفه، يخاف ويتأثر لأدنى اضطراب يشعره بالخطر… فإذا تهدد بالضرب، أو بالقتل، أو بالرمي في النهر مثلًا، فإن شخصيته كلها تتأثر بهذا التهديد ويفقد الشعور بالأمن، ويتجه نشاطه إلى الدفاع عن نفسه، ويتعود الكذب، ويصاب بالانحراف..
وقد يصاب الطفل بالأزمات النفسية أيضًا من شدة الحب الذي لا يمكنه من الاعتماد على نفسه. فالحب الزائد عن الحد الذي يعوق الطفل عن القيام بمجهود تلقائي، يعرضه للضعف ويعرقل نضجه، ويعجزه عن مقاومة أي مشكلة تواجهه في الحياة… ولهذا نرى كثيرًا من الأطفال المدللين من أهلهم، لا ينجحون في الدراسة، ولا يتقنون عملًا، ولا يوفقون في زواجهم لأنهم تعودوا ألا يبذلوا جهدًا، واعتادوا الخوف من التعب، وعودوا على أن ينتظروا من الآخرين أن يسهلوا لهم كل صعب! هذا هو الخطر الحقيقي الذي يهدد الأمة في صميمها، ويجعلها معرضة للانهيار، ونذهب بعد ذلك عبثًا، نبحث عن جيش من المحللين النفسيين الذين لا يستطيعون القيام بالمعجزات!
وكيف يمكننا حل هذه المشكلة الخطرة؟!.. إن النصائح وحدها لا تكفي لأننا أمام تيارات نفسية ناتجة عن تكوين ثابت مرت عليه الأعوام… ولا ننسى أن أغلب الأمهات لا يقرأن في الوقت الحالي، وليست الأمهات المثقفات في حال نفسية تشجع على الاعتماد عليهن وهن في مثل هذه الحال!..
لا بد من أن نعطي هذا الموضوع الأهمية الكافية… لا بد من تكوين لجان عدة تدرس هذه الحالة لتصل إلى الحل السريع، ويجب أن تكون لهذه اللجان الجرأة الكافية للقيام بحملة إيجابية توجه الأنظار إلى المشكلة ثم تبدأ بتنفيذ خطة العلاج… إن من العبث أن أقترح اليوم حلًا يمر عليه بعض القراء مر الكرام، وينظر إليه البعض الآخر على أنه خرافة، أو تظاهر بالقيمة! يكفيني في هذا المقال أن أقول أن معظم مشكلاتنا الاقتصادية الحالية وما يتبعها من سياسة وثقافة، وصحة، راجعة إلى حالات نفسية معقدة تجعلنا نتمسك بمظاهر مؤذية… ولو تعمقنا في درس هذه الحالات النفسية لوجدنا للحالة العاطفية أثرًا رئيسيًا في القضاء على المواهب، والحد من النشاط الذهني والعقلي… وأعتقد أن اتجاه الشعب إلى الزواج المبكر، وإلى تكرار الزواج، ليس راجعًا إلى الرغبة الجنسية بقدر ما هو راجع إلى التعطش للحب، هذا التعطش الناتج عن اضطراب حب الطفل…
أبناء العباقرة…
(أحمد الله أن لم يرزقني ولدًا… فلن يلد عبقري نسلًا يسر القلب!).
(برنارد شو)
لا تعليق