قال المسيح للحواريين: (إنكم لن تلجوا ملكوت السماوات حتى تُولدوا مرتين).
(1)
السادسُ والعشرون من أكتوبر هو التاريخ الذي أكتب فيه هذه الكلمات، وأكتبها عن يوم السادسِ والعشرين من أكتوبر، ولكن من خمسة عشَر عامًا بالضبط.
يطيب لي في بعض الأحيان أن أعتبر هذا التاريخ هو تاريخ ميلادي حقًا؛ فإن الإنسان كما يُروى عن السيد المسيح: يُولد مرتين.
قصد المسيح -عليه السلام- ولادة الهدايةِ والإيمان، وقصدتُ هنا ولادة الإنسان الذي يتحمل مسؤولية حياته، ويعيشها بالشكل الذي يجعله يستحق أن يوجد فيها، تاركًا خلفه -إذا مضى- من يكتبون عنه: هنا يرقد رجل عاش كما ينبغي.
في واحدة من أروع كلاسيكيات السينما الأمريكية وأكثرها تأثيرًا في الناس لليوم: (its a wonderful life )، نرى جورج بيلي (جيمس ستيوارت) وقد اتخذ قراره بالانتحار؛ عقب أزمة مادية طاحنة خسر فيها كل شيء وصار مهددًا بالإفلاس والسجن.
ويستقر خيارُ المَلَك المكلَّف بمحاولة إثنائه عن قراره على الخطة التالية: لقد أراه الملَك الحياةَ كيف كانت ستكون، لو نزعنا منها جميعَ خيارات وقرارات جورج بيلي؛ ليكتشف جورج بيلي أن عشرات القرارات التي أخذها في حياته، ثقيلة كانت على نفسه أو خفيفة، اكترث بها وقتها أم لم يكترث= أنها كلها لها نطاقٌ أوسع منه هو، وأنه حين كان يأخذ قراراته وخياراته يظن أنه يصنع حياته= كان في حقيقة الأمر يصنع حياة الآخرين معه، ولأنه رجل طيب، ولأن أكثر خياراته راعى فيها أن تكون خَيِّرة؛ فإن نزع هذه القرارات والخيارات من حياة الناس، سيكون له أفدح الآثار على حياة أحبابه وأقاربه، بل وحياة أهل بلدته كلهم؛ ليراهم في واقعٍ بائسٍ مُزرٍ، لم يكن ليكون بهذا السوء لولا أن قراراته نُزعت من عالمهم؛ ليتأكد جورج بيلي أن حياته كانت مهمة، وأن استمراره فيها مهم؛ لأنه مهما سأل نفسه ذاك السؤال البائس: “وماذا سيخسر العالم بدوني؟”
فإنه سيظل سؤالًا أنتجه اليأس؛ ولا يَخرج هذا السؤال من الإنسان إلا من شخصٍ لم يتدبر جيدًا في أثره فيمن حوله، أو من شخصٍ لم يبدأ حياته المؤثرة بعد، وحينها فليس من العدل أن يحرم نفسَه والعالمَ من رجلٍ ينوي أن يكون نافعًا للناس؛ فإن في العالم من الشر ما نحنُ أحوج معه ولو لنسمة يبثها فيه إنسان يريد أن يحيا حياةً طيبة.
في اللقطة قبل الأخيرة من فيلم سبيلبرج: (saving private ryan)، وبعد رحلة على طول الجبهة قام بها الكابتن جون ميلر؛ ليعود بالجندي رايان لأمه التي صار هو وحيدها بعد موت ثلاثة أشقاءٍ على جبهة القتال، وبعد أن انتهت الرحلة بإنقاذ رايان ومقتل جميع أفراد كتيبة ميلر وميلر نفسه، =يقول المحتضر جون ميلر لرايان جملة لم تخدمها الترجمة العربية جيدًا: ) earn this).
أراد الكابتن جون ميلر أن يقول للجندي رايان: يجب أن تعيشَ حياتَك بالصورةِ التي تجعلها حياةً تستحق تلك الدماء التي بُذلت لإنقاذها.
ويأتي رايان في المشهد الأخير قد صار رجلًا طاعنًا في السن، تقف خلفَه زوجتُه ومعها أبناؤه وأحفادُه، ويقف أمام قبر جون ميلر، ويلتفت ليقول لزوجته: (قولي لي إني عشتُ حياةً صالحة، قولي لي: إنك رجل صالح).
لقد أراد رايان وقد أحس بنهاية عمره أن يقف أمام قبر الكابتن جون ميلر حاملًا شهادةً من أقرب الناس له، وممن يتأثرون حقًا بجودة حياته أو رداءتها، شهادةً تؤكد للكابتن جون ميلر: أن الجندي رايان قد استحق رحلة الإنقاذ تلك.
(2)
في الواقع: يجب علينا جميعًا أن نعيش حياتَنا بالصورة التي تجعلها تستحق كرامةَ خلق الله لنا، وكرامة تحملنا لأمانة العيش على هذه الأرض عبادًا لله.
وقد غُرس في أذهاننا عبر مؤثراتٍ شتّى، أن تلك الحياة التي تُظهر استحقاقنا لكرامة الخلق والأمانة= يجب أن تكون حياةً مَلحميّة، تُكتب سيرتُها على جدران التاريخ بحروفٍ من نور، أو بسطورٍ خطها ماء الذهب، بحسب ما تسعف به بلاغة الألفاظ ذاك الذي يحدثك عما ينبغي أن تكون عليه حياتك.
والحقيقة: أن هذا الكلام من أكثر ما يُقال فيُضِر ويُفسِد من حيث يحسَب أصحابه أنه يُصلِح وينفع، وبسبب هذا الكلام أهدر أناسٌ حياتَهم، إما في طلب بطولةٍ يظنون أن الحياةَ لا تُستحَق بدونها، وإما في القعود عن كل خيرٍ ليس هو البطولة التي لا تُستحق الحياةُ إلا بها.
ومما يدُلُّك على قِدَم بخسِ مُنجزِ العيش، إلا ما عظُمَ ظاهره= ما في الحديث أن بعض أصحاب النبي ﷺ مرَّ بهم رجل فتعجبوا من خَلقه فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله، فقال النبي ﷺ: «إن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على ولدٍ صِغار فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه ليُغنيَها ويكافئَ الناس فهو في سبيل الله».
ويُرسخُ النبي ﷺ هذا المفهوم في سياقٍ آخر فيقول: «أفضلُ دينارٍ ينفقه الرجل؛ دينارٌ ينفقه على عياله، ودينارٌ ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينارٌ ينفقه على أصحابه في سبيل الله». قال أبو قلابةَ: (وبدأ بالعيال، ثم قال أبو قلابة: وأيُّ رجلٍ أعظمُ أجرًا من رجلٍ ينفق على عيالٍ صغارٍ يُعفُّهم أو ينفعُهُمُ اللهُ به ويُغنيهم؟ ).
في فيلم الحياة السرية لوالتر ميتي، نرى عاملًا وظيفته تحميض وإظهار الصور التي تصله من مراسلي تلك المجلة المعنيّة بنوادر ما يلتقطه المصورون المحترفون في العالم، يمكنك أن تقول: إنها وظيفة هامشية كصاحبها المُهمش؛ فهو نفسُه لا يرى نفسَه إلا مُهمَّشًا، ويعيشُ في سلسلةٍ لا تنتهي من أحلام اليقظة التي يرى فيها نفسه يقوم بأعمالٍ بُطولية، تُمهِّد له بعد ذلك حين يريد التقرب إلى فتاةٍ، أو حين يريد أن يرفع من رأسماله المجتمعي، لكنه –وللأسف- يعود لوضع الإفاقة؛ ليجد نفسه مهمشًا، في حجرته المهمشة، ووظيفته المهمشة، التي يوشك أن يفقدها جرّاء انتقال مجلته للنشر الإلكتروني، ولن يبقى له إلا مهمةٌ أخيرة في وظيفته، وهي أن يضعَ صورةَ غلاف العدد الختاميّ، والتي أرسلها له أهم المصورين المتعاونين مع المجلة. لكن يبدو أنه فقد الصورة، لذلك ينطلق في رحلةِ تَتبُّعٍ لهذا المصور ليحصل منه على نسخةٍ أخرى للصورة قبل أن يكون هو سبب كارثة العدد الختامي.
يقوده هذا التتبع إلى سلسلةٍ من المغامرات العجيبة التي لا يفوقها غرابة إلا أحلام يقظته، يختم رحلته، ولم يستطع الحصولَ على تلك الصورة فيها، إلا أنه مر فيها بتجارب صنعت له شيئًا من مغامرات الحيوات المثيرة التي كان يحلم بعظمتها.
في جيبٍ داخليّ لمِحفظةٍ أهدتها له أمه فرماها بإهمال، يجدُ الصورة، ليرسلها للتحميض دون أن ينظر فيها، ويجلس ليحاولَ مراجعة مفاهيمه مرة أخرى عبر ما خرج به من مغامرته المدهشة، التي لم يظل معه منها شغف المغامرة الذي كان يحلم به، وإنما الذي ملأ عليه عقله وقلبه كيف أن قابل مئات البشر لهم مئات الحيوات المهمة والمؤثرة في نظرهم لأنفسهم، رغم أنه لا يجدهم إلا أكثر تهميشًا منه.
يخرج العدد الختاميُّ بعد ذلك؛ ليجد والتر ميتي أنَّ صورتَه هو نفسه وهو يقوم بتحميضِ إحدى الصور، هي صورة الغلاف التي اختارها هذا المصور؛ لتكون هي غلاف العدد الختامي، مصحوبةً بجملة: “هذا العددُ مَهدىٌّ إلى الذينَ قاموا بِصُنعه”.
كان والتر ميتي مهمشًا، لكن بالنسبة إلى من؟
هذا هو السؤال المهم، إذا استطعت أن تنظرَ لعملك ودَورك من زاويةٍ أخرى غير زاويةِ المقارنات الفيزيائية هذه= ستستطيع ببساطةٍ أن تعلم أنه لا أحد هامشي إلا أهل البطالة الذين لا يعملون.
ولعله من هذه الجهة نفسها يكون قول النبي ﷺ: «سبقَ درهمٌ مائةَ ألف درهم. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: كان لرجل درهمان، فأخذ أجودهما فتصدق به، وانطلق رجل إلى عرض ماله، فأخذ منه مائة ألف فتصدق بها».
إن معظم ظنون الناس عن بساطة تأثيرهم وأنه لا يُفتقد= تكون خطأ.
ومع ذلك فحتى لو كان التأثير بسيطًا، أنت إنما تصف صورته، والحق أن الأعمال ليست بصورتها الشكلية وإنما بما يَجدُه اللهُ من حرص صاحبها على رضاه ونفع الناس.
(3)
في السادس والعشرينَ من أكتوبر عام 2002 م، أُتيحت لي الفرصة الأولى والحقيقية في حياتي؛ لأن أكون بموضعٍ يمكنني فيه أن أكونَ مؤثرًا حقًا في حياتي وحياة من حولي، ففي هذا التاريخ وضعتُ قدمي على أول طريقِ صناعةِ الحياةِ بشكلٍ يجعلني راضٍ عن استمرارها بهذه الصورة، وأراها تكفيني -إن أحسنتُ فيها- لأقول في خاتمتها: قد عشتُ حياةً صالحة.
ففي هذا التاريخ تزوجت.
بالنسبة لشخصيتي، ولمسيرة حياتي، قبل هذا التاريخ وبعده، أرى أن المسؤوليات التي حُمِّلتُها، والشكل الذي سارت به حياتي وأنا أحاول استقبال الحِمل على كَتِفي، والقيامَ به دون أن يسقط مني أو أن أسقط تحته= كان لها أعظمَ الأثرِ سواء في صقل شخصيتي، أو خيارات حياتي الشخصية والمِهنية، أو في رضايَ عن هذه الاختيارات؛ فكثيرٌ مما حُمِّلتُه على عاتقي فَنَفَعَنِي كنتُ لأفرَّ منه، لولا أني أحمل على عاتقي أمانةَ مسؤولياتِ حياتي منذ ذاك التاريخ، وكثيرٌ مما أعرضتُ عنه -وعرفتُ بعدها أنه كان سيضرني أخذه- كنت لآخذه لولا أني أحمل على عاتقي مسؤوليات حياتي .
وأنا هنا لا أنفي ثِقَل الحمل أو أستخفُّ به، بل لقد علمتني تلك المدة أيضًا أن ذاك الحِملَ أثقلُ بكثيرٍ مما يظنه الناس، ولسنا هنا نتكلم عن ثقل حيواتٍ تَحمِل أنت مسؤوليتها من حيث؛ المال أو الرعاية أو الالتزامات فحسب، بل الأمر أعمق من هذا وأشق؛ فإن أثقلَ أعباءِ الدنيا حقًا: هو إحساسُ الأمانِ الذي تستمده أسرتُك منك.
لكن من ذا الذي قال: إنك تكتسب استحقاق العيش من غير نصب؟!
ولستُ أقول هنا: إن مسؤولية العيش المشترك، والزوجة، والأبناء، هي الطريق الأوحد لاستحقاق العيش، أنا فقط أخبرك عن ثلاثة أمور:
الأول: أن الحياةَ لا يمكن أن نكتسبَ استحقاقَ عيشِها بغيرِ مسؤولية.
الثاني: أن تلك المسؤولية التي تَكتسبُ بها استحقاقك للعيش، ليس معيارُها ومعيارُ عظمتها هو أن تكون البطولة التاريخية للمنجزات الكبرى، فأكثر الذين عاشوا حياتهم فأحسنوا عيشها لم يكونوا كذلك.
الثالث: أني أرى أن أعظمَ مُنجزٍ شخصيٍّ لي بدأتُه، وأريد أن أواصلَ السيرَ فيه، هو أني أعول هذه الأسرة التي يصلني صوتُ أفرادِها وأنا أكتب هذا الكلام لا يشعرون به، ثم إني معك هنا: أحتفي بهذا اليوم، وأراه يستحقُ الاحتفال.
إذا وعيتَ هذا كله الذي أردتُه= فاختر لنفسك من طرقِ عيشِ الحياةِ كما ينبغي، اختر لها ما شئت، واستعن عليه بما يمكنك تحصيله وتجويده وتطويره، ولكن لا تعش هذه الحياة دون أن تَحمل فيها من همِّ الحياة ومسؤولياتها ما يحبه الله ويرضاه، وتكون به أهلًا لحمل الأمانة مستحقًا لما أعده الله للذين يرعون الأمانة حق رعايتها.
يقول بيجوفيتش: “بين الهم واللامبالاة، سأختار الهم”.
وكنتُ أحدث أحد أساتذتي عن راحةِ البال، والخُلُوِّ من الهموم، وكيف أنها تُطيل العمر، و… و… إلى آخر قصائد المدح في عدم الهمّ هذه.
فقال لي: نعم. ولكن حياة البهيمة على ذلك تكون خيرَ حياة؛ فهي لا تكاد تهتمّ!
الحقيقة أن الناسَ يُسرِفون في مدحِ زوالِ الهمّ حتى يتمنوا حالة أشبه بحالة البهائم، وصورتها أنها لا تبالي وليس أنها لا تهتم.
بعضُ المُخَدِّرات والمهدِّئات تصلُ بك للحال نفسها، ومن هنا يمدحُها الناس الذين يستدعونها للذة ، ويَذكُرونَ فَضلَها على زوال الهموم، والحال: أنها تُزيلُ همومَهم لتقتربَ بهم -بالفعل- من حال الدَّوابِّ.
والحق أنه لا يخلو صاحبُ العزيمةِ من أن يكون طالبَ آخرة أو طالبَ دنيا، ولا يخلو واحدٌ منهما من الهمّ أبدًا، فمن استعاذ باللهِ من همِّ الدنيا، وجعلَ الآخرةَ أكبرَ همِّه، واستعان بالله ولم يعجَزْ، وتوكَّل عليه سبحانه = كان أسعدَ الناسِ حقًا، وليس موضع سعادته أنه لا يهتمّ، وإنما موضعُ سعادته أنه يهتم لأمرِ آخرَتِه وما يتصل بها من أمر دنياه، ثم ينزل همه بالله ويتوكل عليه ويستعين به، وما يكون في ذلك ومعه من المشقة، هو في الواقع: ألمُ الطلبِ الذي لا تخلو منه الدنيا، والذي على قدر نفعه يكون جزاء الآخرة.
وأنا والله أعلم أن خِفَّةَ الظَّهرِ من كل كذلك مُحبّبة، وأن عيشَ الإنسان لا يحمل إلا همَّ راحته، وما فيه متعةُ نفسِه= عيشٌ لذيذ، لكني أقول لك: إن تلك اللذة مهما بلغت، لا يمكن أن يحيا الإنسان بها وحدها وتطمئنَ نفسه، وتسكنَ روحه، بل بقدرِ جودة معدنه، وحياة إنسانيته= لا بد أن تَحينَ تلك الساعة التي يجد فيها أن هذه الخفة كلها لم تعد تُحتمل.
لا تعليق