أُصادقُ نفسَ المرءِ قبلَ جِسمِه .. وأعرفُها في فعلِه والتَّكلُمِ

أبو الطيب المتنبي.

(1)

      كنت في الملعب أشاهد مباراة الأهلي والمصري (من مدرجات المصري طبعًا حتى لا يغضب أبي) حين تتابعت سخرية جماهير المصري البورسعيدي من “الشورت الطويل” لكابتن النادي الأهلي الملتحي ربيع ياسين، لم تكن ظاهرة اللاعب المتدين جديدة، لكنها كانت نادرة ربما كانت ظاهرة اللاعب الخلوق أكثر انتشارًا، وهو في الغالب يكون متدينًا لكن الطابع الذي يحرص على إظهاره ويتلقاه الإعلام ليبرزه يكون طابعًا أخلاقيًا مع مسحة خفيفة من الإشارة للتدين (الشيخ طه إسماعيل- مختار مختار)، أما تدين فج بمقاييس الناس كلحية ربيع ياسين وحرصه على مداراة فخذه؛ لأن الفخذ عورة= كان هذا جديدًا نوعًا ما.

      سرعان ما اعتزل ربيع ياسين لعبَ الكرة؛ فقد كان في نهاية مشواره على كل حال، وساهمت طبيعة الإعلام في هذا الوقت مع السمات الشخصية لربيع ياسين نفسه في عدم إيجاد أي تأثير في المجال العام لتدينه هذا.

      عدنا ثانية لنموذج التدين الخفيف مع الطابع الخُلقي الأكثر بروزًا في نماذج مثل هادي خشبة لاعب الأهلي، ومُحمَّد حمص لاعب الإسماعيلي، هذه النماذج كانت تَبرُز بسبب انتشار انطباعٍ عام عن ضعف طابع التدين والالتزام الأخلاقي عمومًا في الوسط الرياضي.

      مع تولي حسن شحاتة مسؤولية الإدارة الفنية لمنتخب مصر وسط عام 2005 م، ومع انتصارات المنتخب المتتالية والتي استمرت خمسة أعوام تقريبًا تسيَّدوا فيها عرش الكرة الإفريقية، ولم يَفُتهُم سوى المشاركة في كأس العالم= كان لهذا المنتخب في تلك الفترة طابع ديني لا تخطئه عين، حتى انتشرت تسميته إعلاميًا بمنتخب الساجدين.

  • يمكن رد هذا الطابع في البداية لانتشار حالة من التدين الشعبي العام في المجتمع المصري في هذه الفترة؛ نتيجة مناخ من الحرية النسبي، مع ظهور القنوات الفضائية الدينية، وبروز تيار الإخوان المسلمين في الحراك السياسي والمجتمعي بصورةٍ أكبر.
  • ويمكن رده أيضًا للطبيعة الدينية الصوفية للمدير الفني للمنتخب حسن شحاتة.
  • ويمكن رده لزيادة نسبة اللاعبين المعروفين في الوسط الرياضي بالالتزام الأخلاقي العام.

      لكن كل هذه التفسيرات، وطبيعة الظاهرة في هذا الوقت عمومًا= ستبقى داخل إطار التدين الفولكلوري العام، أعني تدين الشعائر الظاهرة كالصلاة والذكر والقرآن، ولا أقصد التقليل من هذا كما يحلو للبعض، وإنما مقصدي هو خلو ظاهرة التدين هذه من أيَّة دلالةٍ ظاهرة على وجود التزام قِيَمي يقدِر على مواجهة ما قد يُعرَض للشخص من تحديات لا يستطيع تجاوزها إلا من كانت تلك الشعائر قد أثرت في إيمانه بالفعل تأثيرًا يتجاوز السمت الظاهر.

      اللهم إلا استثناءً واحدًا كان قد بدأ في شَغل مساحة لا يُستهان بها من هذه الظاهرة بداية من عام 2006م، وهو لاعب الأهلي المصري المنتقِل له من غياهب ظلمات نادي الترسانة: محمد محمد محمد أبو تريكة.

(2)

      رفعُ محمد أبو تريكة للافتة ((تعاطفًا مع غزة)) في مباراة المنتخب المصري في أمم أفريقيا 2006م، ليس هو ما لفت نظري لمخالفة نمط التدين عنده لباقي اللاعبين، وإنما شيء آخر.

      لقد سمحت الثورة الإعلامية في البرامج الفضائية، واحتياج القنوات لشغل ساعات البث= بأمر لم يكن من الممكن حصوله من قبل، أعني كثرة ظهور اللاعبين، وكثرة الحوارات التي تُجرى معهم قياسًا بأزمنة سابقة، ولقد حرصتُ يُحركني شيءٌ ما على تتبع كل مناسبة يتحدث فيها هذا الرجل، وخلال سنتين فقط من الظهور البارز لمحمد أبو تريكة= ظهر لي بوضوح أنني أمام ظاهرة فريدة في تاريخ الكرة المصرية وأنماط التدين فيها.

      لقد ظهر لي خلال عامين من المتابعة أن محمد أبو تريكة لا تكمن ميزته في تدينه، فلربما فاقه لاعب هنا أو هناك مشهور أو مغمور، ولست أنا على كل حال من يقيس للناس دينهم، إنما الشيء الذي يبدو جليًّا جدًا لكن من له خبرة بالنفس الإنسانية وصروف تعقيدها= أننا أمام معدن إنساني بالغ الجودة والنقاء والصفاء، أمام لونٍ من ألوان الناس لا تكمن عظمة شخصيته في صوابه، وإنما تكمن عظمة شخصيته في أنها تبقيك دائمًا على يقين بأنه أراد أن يصيب، محمد لا يملك براعةً في الحديث، ليس سيئًا، لكنه ليس متحدثًا ممتازًا، ومع ذلك فدرجة البساطة والتلقائية والعفوية في كلامه تجعله يدخل قلبك بلا استئذان، وخلال أربع سنوات وباستثناء بعض مظاهر التعصب الكروي، وبعض الإعلاميين من متصيدي الزلات وأصحاب المصالح، وباستثناء الغضابى من تمثيله لأجل الحصول على ضربات الجزاء= امتلك محمد قلوب الملايين.

      لا يمكنك عزل هذا الحب بلا شك عن إنجازاته الكُروية، ولا عن ترويج الآلة الإعلامية الأهلاوية له، لكن لا يمكنك إنكار أن هذه الآلة الإعلامية نفسها مع لاعبين بإنجازات مقاربة= لم تصل بأي لاعب آخر لهذه المكانة.

  • العمل الخيري الذي كثرت الدلائل على أن ما يظهر منه أقل بكثير مما يخفى.
  • موقفه الفعال من وفاة زميله محمد عبد الوهاب رحمه الله، وهو الموقف الذي لم يتوقف عند حد العزاء والبكاء.
  • علاقاته الممتازة بكل من يعرفه.
  • مغادرته للإستاد عن حضور مغنية مشهورة.
  • كثرة المواقف الصغيرة التي صاغها الإعلام تحت عبارة: راجل بركة.

أشياء كثيرة شكلت معالم ظاهرة محمد أبو تريكة حتى عام 2010م، حيث رأينا للمرأة الأولى تدين لاعب كرة يتعدى حتى يكون له كل هذا الأثر في المجال العام.

 (3)

      بعد الخامس والعشرين من يناير 2011م، وصعود نجم الإخوان المسلمين سياسيًا، تجرَّأ كثير من المنتسبين للوسط الرياضي على إعلان انتماء كان مخفيًا قبلها تحت شعار التدين والالتزام الأخلاقي، وكان من هؤلاء وائل رياض وهادي خشبة (كان هذا معروفًا عنه قبلها بصورة محدودة).

      لكن أبرز نموذج بلا شك كان محمد أبو تريكة، والذي حرصت الأبواق الإعلامية للإخوان المسلمين على إبراز تأييده لهم على الأقل.

      العارفون بتركيبة الإخوان المسلمين يعرفون أن مثل محمد لن يتعدى دوره دور المحب الذي يسمح له بدرجة معينة من الاتصال بالجماعة في حدود الأنشطة الدينية والثقافية، لكن بلا شك تعاملُ الوسط العام المصري مع انتماءٍ كهذا لن يكون بهذه الدرجة من الفهم لطبيعة العلاقة، لكن على كل حال تم التعامل مع الموضوع بهدوء فرضته طبيعة الوضع السياسي لجماعة الإخوان وقتها.

      بداية من 2011م وحتى 2013 م، ومع موجة التحديات والمواقف الصعبة التي كانت تشهدها مصر كل يوم تقريبًا= كان معدن محمد أبو تريكة يتألق بصورة لا تخطئها عين.

      موقفه من أحداث استاد بورسعيد، موقفه من المشير طنطاوي، موقفه من لعب مباراة السوبر والتي رفض لعبها احتجاجا على بطء إجراءات التقاضي في أحداث استاد بورسعيد، مواقف قِيَمية لا يمكن لمن كان ذا بصيرة أن يتجاهل دلالتها على النفس المثقلة بأعباء المسؤولية والنزاهة التي يملكها محمد.

      تعامل الإعلام مع هذه المواقف بما فرضته عليه القيادة السياسية ممثلة في المجلس العسكري وقتها، وهو الأمر الذي نتج عنه تشويه هذه المواقف وتسخيفها مع إشارة صفراء أحيانًا لصلتها بالإخوان المسلمين، رغم إن كل متابع للأحداث وقتها يعلم أن الإخوان في مواقف تلك الفترة لم يملكوا عشر ما كان لدى محمد من النزاهة القيمية.

      كانت السمة العامة لمواقف محمد كما صاغها أحد لاعبي الأهلي بذكاء: أنها مواقف فاضحة، تفضح كل من تحجِزهم مصالحهم الخاصة عن اتخاذ موقف يعبر عن قيمهم وعن المسؤولية الواجب تحملها وعما تفرضه النزاهة عليهم في مثل هذه المواقف.

      ثم وقع الانقلاب، وفي شهوره الأولى اختارت بعض الجهات الإعلامية ووراءها وتبعها بعض الجهات الأمنية موقفها المختزن من محمد، ليتم تحويل محمد إلى صيدٍ إعلامي، وتحويل سمعته إلى غرض للسهام، وتحويل أمواله وممتلكاته إلى فريسة يسعى لها آكلو المال الحرام، ولا أشك أنه لولا اعتبارات إعلامية وسياسية ولولا موقف محمد الهادئ في التعامل مع كل هذا الترصّد= لكان الضرر الذي سيلحقه أكثر من ذلك بكثير، ولا زال محمد يواصل حياته وأرجو أن يسلمه الله ويعافيه من كيد الخائنين.

(4)

      في حوار مع وائل جمعة على هامش كأس العالم الأخير بالبرازيل تكلم محمد أبو تريكة عن اعتياده التمثيل من أجل الحصول على ضربات الجزاء، لم يقل محمد أن ذلك شيء معتاد في كرة القدم، ولم يقل كما قال جمال حمزة لاعب الزمالك مدافعا عن أبو تريكة: إن اللاعب الذي لا يفعل ذلك مخطئ، وإنما قال بوضوح: التمثيل ده حرام.

      يعتبر البعض أن أعظم مشاهد مسلسل (breaking bad) على الإطلاق هو مشهد أواخر الموسم الخامس حين يتخلص والتر وايت من طبقات التبرير الكثيفة التي استمر يغطي بها تصرفاته البشعة عبر حلقات ومواسم المسلسل؛ ليصل للمرة الأولى لاعترافٍ واضح وصريح بالدوافع الحقيقة لتصرفاته، والتي ليست أبدًا مصلحةُ عائلته أو تأمينُ مستقبل أولاده، وإنما وفقط هذا السبب: نفسه، أنه وجد حياته في ذلك، وأنه وجد فيما يفعله قيمة تُرضِي كبره وغروره.

      قدرةُ الإنسان اللامحدودة على التبرير الذي يداري به دوافعه الحقيقة، جهاز التأويل المعقد والضخم الذي يملكه كلٌّ منا؛ ويستطيع به أن يطمر شهواته ونزواته، وتحكم نوازعَ السوء داخله في أفعاله، هذه المداراة وذلك الكتمان الذي يصل في تعقيده وتركيبه حتى يَخدع به الإنسان ذاته أحيانًا.

      هذا الاعتراف البسيط في هذه المسألة السهلة، هو رَغم بساطته وسهولة موضوعه واحدٌ من معالم صفاء النفس، ونقاء المعدن الذي يملكه هذه الرجل.

      صفاء النفس ونقاء المعدن الذي يظل أكبر معالمه: قدرةُ محمد على الحفاظ على نزاهته القيمية، ومواقفه الأخلاقية رغم عِظَم التحديات التي يتم استهدافه بها، ورغم ضخامة الضغوط التي تحيط به من وَسَطٍ يريد منه دائمًا أن يبقى يُشبههم، يعيش في منطقة الأمان والراحة، يحوط بدينه على معايشه لا يُحِقُّ حقًّا ولا ينكر منكرًا إلا بقدر ما يعفيه ذلك من التَّبِعات الأخلاقية.

      منذ عامين تقريبًا سبَّني أحد المنتمين لحزب الظلام والدم الحرام السلفي قائلًا: تُسرف في مدح لاعب كرة وتقدح في مشايخنا!

      في الحقيقة هو كغيره كثيرين جدًا لا يفهمون حقيقة ميزان الدين رغم وضوحها وبساطتها: دينك لا يُقاس بلحيتك ولا بثوبك، دينك لا يُقاس بلقبك ولا بمنصبك المشيخي، دينك لا يقاس بشعاراتك ولا بصرخاتك، دينك لا يقاس بزعمك ولا بدعواك، دينك لا يقاس بماضيك ولا بنسبك.

      إن الإنسان يرجو الخير للناس جميعًا، ولا يقيس هو للناس دينهم إلا بالقدر الذي تفرضه ضرورة المعاملة، ويظل يرجو دائمًا أن للناس خفايا أعمالٍ تستُر ما يراه من سوء، لكنه يبقى دائمًا مأمورًا بولايةٍ بقدر ما يراه من خير، وببراءةٍ بقدر ما يراه من شر، وإن أعظمَ الخير ميزانًا، وأعظمَ الشر ميزانًا -بعد أركان الإسلام- ما تراه من حال الشخص من التزام بِقِيَمِه وتحمله لمسؤولياتٍ ما تفرضه عليه النزاهة الأخلاقية، هذا هو المقياس الحقيقي: عدد المرات التي تخرج فيها من منطقة راحتك؛ لأجل أنَّ مسؤوليات دينك ونزاهتك الأخلاقية تفرض عليك هذا الخروج رَغم ما فيه من ضيقٍ وبلاء.

      محمد أبو تريكة لم يتكلم كثيرًا في الأعوام الثلاثة الماضية، واكتفى فقط بهدوئه ومواصلة حياته بقدر ما يُسمح له، ولكن كل متابعٍ لما يجري في مصر يعلم أن هذا الرجل كان يمكنه أن يُفوِّت على نفسه كثيرًا من الضرر المادي والمعنوي لو خاض مع الخائضين.

      والجزء الأهم من عظمة هذه المواقف: أنها تأتي بلا عنترية فيها من صدى الصوت أكثر مما فيها من الفعل، وتأتي بلا ظلمٍ للنفس فيه من الآصار والأغلال أكثر مما فيه من القيام بالواجب، ثم أنها تأتي ولا ضجيج معها ولا استطالة، فمحمد حتى الآن يعُدُّ نفسه واحدًا من الناس، وجزءًا من الوسط الرياضي، ولم ينقطع عنهم أو يستعلِ على مجموع زملائه، أو يُفارق نمط الحياة الذي أحبه واختاره لنفسه.

     

  «الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا».

 

هذا الحديث فيه ضرب من التقديم والتأخير لا يُفقه إلا به، وهذا الضرب من التقديم والتأخير لا يكاد يوجد إلا في كلام العرب القديم، وهو سمت من سماته، وقلَّ أن يوجد في كلام من بعدهم.

والمعنى هاهنا: أن الناس إذا فقهوا كان خيارهم بعد الفقه خيارهم قبله فيكون الفقه تطويرًا وإعمارًا وتثبيتًا للخير الذي عنده، وكان شرُّهم بعد الفقه شرهم قبله، فيكون الفقه وسيلة يتوسل بها إلى زيادة شره، وتطوير مسالك خَبَث نفسه، وأن المعدن الذي بُني قبل الفقه هو ما عليه أساس الانتفاع بالفقه وعدمه، وقلَّما يقع في الناس فقيه حدث له الشر بعد فقهه، أو صاحب معدن حسن نقص الفقه من معدنه وأفسده.

      أما عدم الفقه فيكاد يكون شرًّا كله، وبعدم الفقه يسلك صاحب المعدن الحسن مسلك صاحب معدن السوء لا تستطيع أن تُفرق بينهما، فإذا كان الثاني أهلكه خبث نفسه= فإن الأول يهلكه جهله.

      وإني أزعم: أن في هذا الرجل الذي جعلت اسمه اسمًا لمقالي من دلائل جودة المعدن، وصفاء النفس، وقابليتها للخير ما أرجو لو كان لي مثله، وإني لأظن أن الله هداه لفقهٍ في الدين عصمه مما زل به من تشبَّع بشعار الفقه في الناس حتى ملوا من تشبعه، وإن خير الفقه الورع، وكثير مما يمكن أن يزلَّ فيه الفقيه بنظره يهديه فيه ورعه.

وقد تأملتُ طويلًا في كثير من الفساد العظيم الذي ينزل بالناس= فرأيت أنه لم يحمِل عليه قلةُ الفقه بقدر ما أدى إليه نقصُ الديانة وقلة الورع، وحقيقةُ الصلحاء الأتقياء أهل الورع والعمل من أمثال هذا الرجل= أنهم بذواتهم لونٌ من ألوان بلاغ الوحي للناس، يعملون فيهم عمل الآية تنزل على القلب الخاشع.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *